نظرية.. (الفار) و(الحوار)!!
حكاية سودانية شعبية فيها حكمة عميقة.. يقال إن رجلاً وُلد وهو كفيف.. وعاش حياته كلها حتى شب وكبر وهو فاقد لنعمة البصر.. لكن يوماً ما وفي لحظة إعجازية خاطفة فتح عينيه فإذا بالضوء يغمرها فيشرق بصره. أول ما وقع على عين الرجل فأر كان يقف أمامه.. تأمل الرجل في الفأر قليلاً ولكن قبل أن يفيق من تأمله أظلمت الدنيا مرة أخرى وعاد إلى حاله الأول أعمى.
صورة واحدة فقط احتلت خيال الرجل عن الدنيا التي لم يرها.. صورة الفأر.. فصار كلما تحدث وأراد وصف شيء استخدم المقياس الوحيد الذي رآه في حياته، الفأر.. (أريد قماشاً بطول ثلاثة فئران) أو (أبنى لي حائطاً بارتفاع خمسين فأراً..) يسأله بائع البطيخ.. هل تريد بطيخة كبيرة أم متوسطة.. فيرد عليه (كبيرة؟؟ قدر كم فأر كدا..) وهكذا.. تحول الفأر في حياته إلى وحدة قياس وتوصيف حصرية.
واحدة من محبطات تقدم سوداننا.. نظرية (الفأر).. المسلمات التي تغلق عقولنا وتختصرها في مسار واحد.. بمقياس واحد..
مثلاً.. دعني أختار لكم مثالاً حكاية التعويل على (الحوار الوطني) كتعويذة تنقذ البلاد من الأزمة السياسية.. حتى صار مجرد النطق بكلمة (الحوار) أشبه بإيمان الأعمى بـ(الفار) المعيار الحقيقي لقياس الأشياء في غياب أي مقياس آخر.
حسناً.. الآن بعد أكثر من عام ونصف من بداية (الحوار الوطني الشامل) لم يتحرك قيد أنملة من محطة الانطلاق.. لا يزال تنتظره شهر ونصف إضافية للموعد (الجديد المتجدد) المضروب ليصل للمحطة التالية.. لماذا نصر على التمسك بمقاييس (الحوار)! كما يريدها حزب المؤتمر الوطني؟..
لماذا لا نخرج من مستمسكات الأعمى الذي لم يوفر له القدر صورة ضوئية سوى للفار؟.. فأصبح مقياسه الأوحد.
مطلوب نسخة جديدة من (الحوار) لا تشبه الحوار المتوفر حالياً ورسمياً.. حوار مرجعيته وضامنه وحارسه هو الشعب السوداني.. لا أمبيكي ولا مجلس الأمن ولا السجن ولا السجان باق..
الشعب السوداني يتحلى بوعي ثاقب,, واستنارة قادرة على استكشاف الطريق نحو مستقبل مشرق.. والذين يفترضون أنه مجرد كتلة سكانية صماء تنتظر بركات الساسة والحوار سيتفاجأون يوماً أن قرر الشعب السوداني أن ينطق بكلمته.. فتلك الطامة التي ليس من الحكمة أن يتمناها أحد.. إلا أن كان من الممكن أن نتجنب شرها ونحصد خيرها..
يا جماعة الخير.. افترعوا حواراً جاداً لا يلغي الحوار السائد.. لكنه لا ينتظره.. حوار يتجاوز نظرية (الفار)..