وطــن تـــوزع بـــين أنــقــاض الغمـــام!!
«أ»
لم يكن من أحد يصدق أنه بعد مائة وتسعين عاماً من غيابه، يمكن أن يعود من جديد على هيئة رجل عشريني متأنق يزاحم في عصر وزمن جديد، كأنه قطعة طازجة من أساطير محيرة وأقصوصة باذخة الخيال تتطاير في زحام الحياة والزمن، وتمشي ولهى طروباً وتارة متهملة كمشي أميرات إغريقيات غالبهن النعاس وهن على درب الهوى والزيتون، وترى عينيه حين تطبقان على أسراره، كتجاويف في كهوف مظلمة سحيقة يجول الصدى في أغوارها البعيدة كمهوى الأشطان في بئر لا قاع لها إلا ذاك المجهول القصي الضارب بجذوره في فراغ التاريخ!!
لكنه عاد من بعد غياب، لم يكن موجوداً إلا في المخيال والذاكرة الشعبية في تلك البلدة النائية بغرب السودان، يتوارث الناس حكاياته، كما توارث الشيعة قصة الإمام الغائب، وكما اليهود في إسطورة اليهودي التائه أو السبط الثالث عشر المفقود!!
يروي عنه الخيال الشعبي قصصاً متخمة بالغرائب مليئة بالأحاجي الموغلة في اللامعقول، وخرافات لا تصدأ مع الزمن، كلما ذهب جيل جاء جيل جديد.. جلا صورتها وزاد من لمعانها وبريقها، كأنه وسيرته قطعة من بريق الخوارق حين تلوح في الخواطر والأفكار والمرويات كشريحة رقيقة متلألئة من شظايا شهاب تائه في الفضاء العريض.
كان منثوراً في ليالي القرى البسيطة على ألسنة «الحبوبات» والأمهات وهن ينشرن ويمدن بردة الحكايات لأطفالهن حتى ينثر الليل وشاح النعاس في العيون الصغيرة، وكان محفوراً في عقول الكبار، يتحدثون عنه في جلسات الظهيرة وفي الأسواق والحقول البعيدة وبين طرقات القرى وعقب الصلوات والرجال عائدون إلى بيوتهم، أو ربما همساً في المناسبات، حيث يتحول الريف كله إلى سحاب من الزغاريد أو مدمع على خد الحياة.
لكن لم يكن أحد من الناس قد جال بخاطره أن ذلك الرجل عاد بعد غياب وأطل من وراء أودية الرحيل والموت أو السفر والخفاء، وأن الله قد فرج كربته كما الإمام الغائب، عاد يعتمر قبعة من السعف ويرتدي بنطالاً من الكتان الأبيض السميك وقميصاً مزركشاً كبهلوان في سيرك ضل طريقه إلى وهاد دارفور وأباطحها وقراها النائمة على وجنات السحاب!!
«ب»
تُروى في تلك الأصقاع النائية عند منحى وادٍ توزعت ما بين جباله وسهوله وتلاله الخصيبة وخيرانه، قرى عديدة توالدت عبر قرون، سحقتها نعال السلطنات والممالك والأزمنة المثخنة بالجراح، ولطختها الأقاصيص والخرافات، أن رجلاً عاش ما يقارب المائة وثلاثين سنة، ينحدر من أرومة منسية لقبيلة اشتهرت بالمعمرين، كان يمارس السحر، وقد هاجر إليه ليتعلمه من قبائل رعوية تائهة في أدغال إفريقيا جنوب الصحراء، ولما عاد بعد سنوات الغياب الطويل، كان قد بلغ السبعين من عمره، لم تخط الأيام بريشتها على وجهه ولم تداهمه التجاعيد، ظل وجهه نضراً كقطعة ملساء من الرخام والعقيق.. عيناه براقتان تلمعان كوهج نجمة تطيش أجفانها في ليالي الصيف المظلمة، لا تدل عيناه على خبث ومكر بائن، لكن رجال القرية ظنوها تشبه عيني ذئب يتحين الفرصة لانتزاع جدي صغير من بين الزرائب وأرجل المعزات الراجفات.
كانت له لحية مدببة تناسب وجهه الطويل مثل صبره على همس الأهالي عن سره الدفين، أنفه الدقيق كحبة النبق زاد من غرابة وجهه المغبر وهو يتوسط خديه الناتئين، رقبته الجافة الطويلة كأنها اشرأبت ذات يوم ولم تعد إلى طبيعتها، تكاد تسمع صوت ريقه المبلوع ينبجس من حلقومه، تبرز عظام ترقوته أعلى صدره مثل حطب القطية العارية التي هجرت وصارت قفاراً وباتت أوكاراً لطيور المساء والليل بلا شقشقة ولا صفير.. يداه طويلتان متيبستان كأعواد المشانق وأفرع شجر الحراز في فصل الخريف، أصابع كفه غير متناسقة.. عجفاء.. ملتوية.. نبتت في نهاياتها أظافر طويلة متسخة كمخالب نسر هرم نتفت الأيام ريشه واختار برد السفح عن وهج الجبال!!
«ت»
سكن وحيداً عند منحى الوادي عند تلة في مكان يطل على القرية كلها، تمر به الدروب اللولبية للذاهبين إلى آبار الماء في بطن الوادي وإلى المزارع الصغيرة والقرى المجاورة، تفزعه أصوات البغال والخيول والكلاب في لياليه التي يعبق فيها دخان غريب يتسلسل من بين فجوات القطية بحطبها وقصبها وسقفها المخروطي، يعيش وحيداً يدعي أن أهله وعشيرته رحلوا من زمن وهلك بعضهم في حروب قبلية دارت رحاها قبل خمسين سنة قبل هجرته الطويلة البعيدة، يتذكر بعض أهل القرية ما يقوله خاصة الشيوخ وبعض النساء الطاعنات في السن، لكنهم يجمعون على قول واحد أن «أصله وفصله يظهر لهم رهاب رهاب»، ولم تكن له من فئة يستنصر بها في الملمات غير عالمه الغريب وما يرويه أهل الحي عن صلته بالسحر وعالم الغيبيات والطلاسم، كان يغرق في غموضه كما الغمامة تحضنها غمامة، وكحمامة تسمع نداء الماء في شرايين السحب الراحلة.
مارس طقوسه الغريبة التي جاء بها من مجاهل إفريقيا البعيدة، يحفظ رطانات نادرة ويردد تعاويذ غريبة، أثبتت أن صلته بالدين وصحيح الإسلام ضعيفة للغاية إلى درجة أن الناس يقسمون أن عدد المرات التي شاهدوه فيها يصلي أقل من أصابع يديه العجفاوات.. لكن كان هناك من يطلبه، طلبه الرجال في أدوية بلدية وأعشاب من لدغات الثعابين والعقارب والهوام، زعموا أنه قادر على جلب الرزق والمطر وطرد أسراب الجراد، وقالوا عنه إنه يعالج بتفل من فمه أمراضاً عديدة، وبمسحة من كفيه اليابستين على رأس طفل يعالج «القوب» والثعلبة والصداع والشقيقة والحميات التي لا حصر لها ولا عدد، وطلبته النساء العاقرات وقصده كل رجل متوثب للحياة.. كان يضع سماً زعافاً على أسنة الحراب والسهام لرجال الحروب الأهلية وسهام الصيد.. ويعطي وصفات لأنواع من علاج بعضها ناجع وبعضها جاء بنتائج معاكسة، لكنها لم تفقده مصداقيته عند النساء وبعض أهل القرى المتساكنة.
«ث»
صارت قطيته مزاراً.. لكن أحداً لم يصفها يوماً، وظنوا أن هذا من سحره، كل من دخلها لم يعط وصفاً لما فيها من محتوياتها وموجوداتها، غير الرائحة الغريبة والدخان ذي اللون الأغبر والأخضر الذي ينبعث منها، وأصوات همهمات غير مفهومة تصل إلى الأسماع.. أما صوته وهو يتحدث للناس فهو أقرب إلى فحيح الأفعى منه إلى صوت بشر.
في المرات القليلة التي يظهر فيها في المناسبات الاجتماعية للقرية والقرى المجاورة، لا يأكل كثيراً لكنهم شاهدوه يأكل أمام قطيته «بليلة» من الدخن، ويشرب لبن الماعز، وشوهد يوماً وقد ذبح ديكاً قرمزي اللون، طبخه في إناء من الفخار ولطخ بدم الديك أعواداً ولحاءً من شجرة غريبة المنبت والاسم.. ودفن ريش الديك أمام باب قطيته المريبة.
في تلك الأثناء كانت الأخبار ترد من سلطنة وداي وسلطنة دارفور، ويروي الأهالي أيام سلطنة الداجو، بعضهم زعم أن الرجل الساحر وجد جمجمة يظن أنها للسلطان «كسافروك» وحملها معه وشرب فيها اللبن وملأها بالدم وكرعه، وراجت عنه شائعات كثيرة، لم يحسبوه قط من أهل الصلاح فقد كان هؤلاء معروفين في تلك الأزمنة البالية، وكانت قوافل الحجيج التي تأتي من غرب إفريقيا تمر في تلك النواحي، ويعرف الناس والبسطاء أن رجال الله والمتدينين ليسوا من شاكلة الرجل القاطن معهم.
استمر على حاله تلك إلى أن نشبت حرب قبلية راح ضحيتها خلق كثير من تلك القرى، وصار لون الوادي دماً قانياً في فصل الخريف، وعمت المناطق فوضى كاسحة، وارتحل الكثير من أهل القرى إلى أماكن أخرى، في هذه الأجواء اختفى الرجل بلا رجعة وغاب كما جاء.. ابتلعته المسافات والأزمنة، حتى عندما عاد الهدوء ورجع الناس إلى ديارهم لم يسمعوا عنه شيئاً، لكنه ظل في قصص الناس وحكايات الأهالي والأجداد، لأجيال متعاقبة تلهث خلف أجيال.
«ج»
مع انتصاف السنوات الثمانين، وقد تحولت الدنيا والحياة وتبدلت الأعصر والأمكنة، توسعت القرية القديمة الشامخة في مكانها الذي واجهت فيه عصف رياح الأحداث والدهور، وتلك القصص عن الرجل السبعيني الساحر تضخمت، ومكان قطيته الذي عرفه الأجداد السابقون صار مدرسة ابتدائية على جانب الوادي، ولم يبق إلا تلك السير القديمة الطازجة كأن جوف التاريخ يتقيأ في وجه القرية ليذكرها بماضٍ يأبي أن ينزاح عن صدرها. ذات يوم بعد مائة وتسعين سنة من ذلك التاريخ القديم .. ظهر في القرية شاب غريب الهيئة والشكل، له وجه طيل كمحارب هكسوسي عتيد يرتدي بنطالاً من الكتان الأبيض السميك وقميصاً أزرق بخطوط حمراء وصفراء ودوائر صغيرة خضراء، وينتعل حذاءً رمادي اللون، وقبعة من السعف على رأسه، ويضع نظارة سوداء على عينيه الغائرتين.. وقف في نفس مكان المدرسة عند تلة صغيرة تمر بها دروب كثيرة وقال: «هذه أرضي.. أين ريش الديك المدفون هنا؟»!!