خليل الأغا : العار.. وخزة في الخاصرة علّها تؤلم
تصدّرت صورة الطفل إيلان كردي ذي الثلاثة أعوام صفحات الصحافة الغربية، وأثارت مشاعر شريحة واسعة من سكان القارة الأوروبية، دفعت بعض السياسيين إلى ضرورة النظر في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين الفارين من مناطق النزاعات والحروب. فيما ترواحت ردود الفعل الشعبية بين الخروج في تظاهرات مطالبة باستقبال اللاجئين وبين مواطنين غربيين فتحوا منازلهم لاستقبال عائلات من اللاجئين، دونما انتظار لقرارات حكوماتهم.
ليس الغرض من هذه السطور إثارة المشاعر، واستشعار دور الضحية، والبكاء على الأطلال، أطلال أمة احتضنت الديانات السماوية بسماحة شرائعها، وكانت منطلقاً لكل الحضارات التي انتشرت في الأرض. لن أقول كفى! ومتى! فقد جرّبنا هذه الأسطوانة منذ عام 1947 ولم تجدِ نفعاً في فلسطين، وضاعت الأرض وتشرّد الشعب في المنافي، ولم نجد إلا فضول الأموال، والشعارات والبيانات فارغة المحتوى. إنما هي وخزة جديدة في الخاصرة، فإيلان ليس الأول، وعلى حالنا هذه لن يكون الأخير.
لن نعود عقوداً إلى الوراء، إذ يكفينا عاراً مطلع هذا القرن، الذي بدأناه بمحمد الدرّة، ولحقته إيمان حجو وعشرات الأسماء المجهولة في فلسطين، والعراق، ومصر، وسورية. فكم من ابتسامة بريئة، طمرتها قذائف الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وكم من ضحكات وأدتها أيادي الاستبداد في العراق، وكم من أحلام أحالتها براميل الموت الأسدية إلى كوابيس، لتخطف في كل يوم زهرات غضّة لا تلتقطها عدسات الكاميرات، بل ولا حتى قد يُعثَر لها على جسد يُدفَن.
في كل يوم لدينا إيلان ولدينا إيمان ولدينا الدرة. جل ببصرك في بلاد العرب، لترى شقاءً يسكن في العيون، وعذابات تجترع الخوف من هراوة العسكر التي لا ترحم ضعفاً ولا غضّاً. جل ببصرك في مخيمات اللاجئين في بلاد العرب، إذ لم يعد هناك فرق اليوم بين سوري وفلسطيني وعراقي. جل اليوم ببصرك في أوروبا، على الحدود بسطاء، بل بؤساء، يجتازون السلك الشائك بأجسادهم الغضة نحو اللامكان. مشاهد مأساة يندى لها جبين البشر. في محطات القطار وفي الحدائق العامة. سترى أن كرامتنا تساوت مع المتسولين أو المتشردين، الذين كنت تراهم سابقاً في تلك الأماكن. جل ببصرك اليوم لترى في تلك الأماكن بشراً بسطاء يبحثون عن الأمن والأمان والعيش بكرامة. مد عينيك نحو الشواطئ لترى جثثاً يقذفها البحر، وأخرى متكدسة في شاحنة على الحدود النمساوية.
لا ندري أنكره البحر أم نقدّره؟ أنكرهه لأنه أنهى أحلام آلاف البسطاء الذي طمعوا في أن يوصلهم إلى شاطئ الأمان؟ أم نقدّره لأنه أدرك أكثر منّا ومنهم أن أعماقه أكثر راحة لهذه الأجساد المعذبة من أي مكان فوق البر. لقد بات هذا البحر اليوم صاحب الكرم كلّه، استقبلهم وأكرم مثوى آلاف منهم، لربما أكثر ممن استقبلتهم بعض بلاد العرب. أراح أجسادهم التي أضناها الرهق، أرسل أرواحهم نحو السماء علّها تطمئن بعد طول شقاء. آخرون كثر، لا زال الذل زادهم وشرابهم ولحافهم؛ في وطنهم نظام مسخ كراماتهم وأذلّهم حتى هان عليهم ترك بلدهم، الذي تمزقه طوائف وشيع وتشكيلات جعلت من راياتها نذر شؤم على كل من تطوف عليه. لم يبق للسوري والفلسطيني إلا المجهول. من يهرب من بلده؟ من يترك وطنه وأرضه وأهله، ليلقي بنفسه إلى أتون المجهول؟ إنه الأمل الذي فقد من المعلوم وتعلّق بالمجهول علّه يكون أرحم بهم من بني جلدتهم، إخوانهم في الدم والعشيرة والدين والتاريخ والجغرافيا! هذه الأرقام التي نسمعها هي لبشر ضاقت بهم رحابة الأرض، وضاقت بهم بلاد العرب الممتدة من المحيط إلى الخليج. لم يجدوا فيها راحة ولا أملاً ولا استقبالاً ولا حتى قبولاً. تاهوا في الشوارع وعلى الأرصفة بعد أن كانوا في ديارهم ذات يوم يستقبلون العرب من المحيط إلى الخليج زواراً وسياحاً. المشهد هنا عجيب فعلاً، تصريحات قادة أوروبا تتسابق لتجد حلولاً لأولئك المعذبين، بعضهم دعا لحسن استقبالهم، والبعض تداعى لتفهّم الموقف رغم صعوبته، وعدد قليل على استحياء أبدى تذمّره من عدم القدرة على التعامل مع هذا الطوفان البشري الذي يجتاح بلدانهم من البر والبحر. على الضفة الأخرى، يطبق الصمت، ولا ذكر للأمر سوى “غرق لاجئين سوريين”! خبر يومي لا يثير في النفس شيئاً إلا إذا كان العدد كبيراً (أكبر من المعتاد)، ونكتفي بعبارة “الله يرحمهم”.
لن أقول متى؟ وكفى؟ لن أهين هؤلاء المعذبين باستجداء لا يسمن ولا يغني من جوع، لكن علّ تلك الوخزة تصل إلى حيث تؤلم، وإن كنت أشك أنه بات في ذاك الجسد المجلّل بالعار ما يشعر بالألم.