حسين خوجلي

الأشياء والإنشاء في الخرطوم لا يتغيران

(مدخل)
الخرطوم احتفت بعبد الناصر مثلما احتفت بقتيله سيد قطب.. واحتفت بالعقاد ومن قبله بأعدائه من الساسة أهل المعسكر الحر المستعبد. الخرطوم احتفت بنيكسون والمعونة الأمريكية مثلما احتفت بمالكلوم اكس، الداعية، وكل ضحايا المكارثية من اليسار الأمريكي، الخرطوم احتفت بجميلة واخوات جميلة وابن بيلا وعباس مدني وكل شيوخ الجهاد الجزائري وكل الانقاض والاضداد والنقائض مثلما احتفت الخرطوم بفرنسا ديجول.. والديمقراطية الاوربية والوجوديين القدامى والجدد. الخرطوم احتفت بزكي الارسوزي وميشيل عفلق ناقدة مثلما احتفت بصدام محبة وناقدة ومتوجعة وكسيرة وغاضبة.
الخرطوم التي يرقد في قلبها باطمئنان علي بن أبي طالب بجوار معاوية بن أبي سفيان بلا أي اضطرابات أو اضرابات أو حتى فتنة كبرى أو صغرى. لا تقبل أبداً تبديلاً للأثر، قوي أو ضعيف, ان (اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
< الخرطوم ودعت بالأمس البعيد عرفات بالأحضان مثلما ودعت بالأمس القريب هنية بالأدمع. < انها الخرطوم التي تعجز عن الذي تجعله فوق الآخر تهافت الفلاسفة أم تهافت التهافت. ولا تعرف من تقدم للامامة الكبرى أو الصغري، الغزالي أم ابن رشد.. كل شيء مقبول ومبرر، انه النظر الصوفي الخطير الذي يوالي الجميع اذا التقوا بالحد الأدنى.. ولذلك فانها أبداً حزينة وفقيرة وجالسة على طريق المقبرة واكف المغفرة. عزيزتي الخرطوم متى تجيدين فن ادخار مؤونة العام فقد فجعتنا جدلية (رزق اليوم باليوم) في السياسة والاقتصاد والاجتماع ولن ننصح عاصمة ولدت على جفن الردى وهو نائم لاننا انفسنا لا نجيد فن الانتصاح أو الانتفاع به. < مدخل ثان أجد نفسي مسكوناً بفن الاجابة حتى وان كانت فارقة أو مفارقة أو حتى فارغة. مجرد الاجابة في لحظات المباغتة تؤكد أن العقل المحاصر قادر على التنبه المعافى ولو بعد حين.. ومن استدراكات الراحل محمود محمد طه المباغتة وهو يبتسم في وجه المحاورين والصحافيين (لا مشكلة من الاسئلة اللاذعة ما دمت أنا الذي يجيب في الآخر ولذلك فإن الاجابة وهي التالية أبداً أفضل من ابتدار السؤال وصدره وتصدره). < ولذلك مما احفظه للأخ الصديق عوض الكريم موسى واقدر فيها سودانيته رغم دمائه الهندية والافغانية التي أبت أن تجتثها حرارة الشموس بأم درمان ونسب السادة الركابية برفاعة فقد قرأت عليه حملة كتاب مصر على محمود واتهامه بالكفر الصراح قال لي وهو يتململ.. انت صاحب قرطاس وقلم يا حسين وقادر على الردود الموجبة والسالبة ولكن أن تذكرتني فاكتب على لساني يا هؤلاء.. ان مثل محمود محمد طه هو كافر السودانيين فمن هو كافركم انتم؟ < ولست انسى أبداً أنني غطيت محاكمة محمود وانتظرت حتى اصدار الحكم وكلمته المجلجلة المخيفة (إنني لن اتعاون مع هذه المحكمة لانها غير مؤهلة لا فنياً ولا أخلاقياً) ثم جلس وصمت والابانة والفصاحة في ساعات بداية النهاية لا يجيدها إلا أهل الجزيرة وفي هذا باب كبير.. < مدخل ثالث < وبمناسبة أن دائماً هنالك اجابة حكاية صديقنا المتمرد عاشق الشعر والموسيقى والكورة والظرفاء. كنا نخرج من المدرسة الثانوية نذهب الى بيوتنا فيذهب لكورة العصر بدار الرياضة أم درمان وبعدها يذهب لكورة المساء بالعرضة شمال أو جنوب ومن بعدها الى أقرب حفل عرس في منزل مأهول أو في ناد شهير وحفلات أمس لا تتوقف بأذان الفجر أو بانتهاء مراسم العرس الدهين.. ومن بيت الحفل أو بيت (اللعبة) الى المدرسة مباشرة دون المرور بمنزلهم العريض الفسيح بالطلاقة والحريات العامة. الحصص كانت لصديقنا أسعد لحظات النوم في آخر الفصل ومن سوء حظه أنه في أحد الأيام نام وملأ الشخير الفصل فانتبه أستاذ اللغة الانجليزية الصارم والذي خبطه خبطة جبارة حتى جحظت أعينه الحمراء واضطره للجلوس في الأمام تحت المراقبة فظل المسكين متيقظاً خوفاً وكل شيء ما عدا الوجه نائم. خرج استاذ اللغة الانجليزية وأتت الحصة التي تليها لاستاذ اللغة العربية والأدب اللطيف فجاءه الشخير مرعداً فأيقظه بأدبه المعهود وأين كنت ساهراً يا تلميذنا الفتي؟ فقال صديقنا دون تردد (كنت مساهر يا استاذ في الحصة الفاتت) فضج الفصل في فاصل من الضحك الطويل، ولولا أن الرجل الآن اختصاصي متميز في الطب البشري لكشفت عن الاسم الشهير.. اجمل ما في الاجابة اللماحة المضحكة من صديقنا ليس محتواها فقط ولكن الأجمل أن هنالك دائماً إجابة. هذا من باب المضحك أما من باب المبكي فلست أدري ولكن دائماً هنالك أسئلة في الوضع السياسي الراهن. لماذا كارثة دارفور؟ ولماذا كارثة نيفاشا التي ظلمت الجنوب والشمال؟ ولماذا حريق الطريق أمام القوى الاسلامية والوطنية؟ ولماذا هذا الفقر والجهل والمرض وانسداد الأمل أمام الريف والمدينة؟ للأسف لا توجد هنا همسة باكية باعتبار أو ضاحكة بافتخار.. المضحك المبكي هنا أنه لم تكن ولن تكون هنالك أبداً إجابة أو حتى محاولة!! < مجرد سؤال قامت شركة صينية متعددة الأغراض والأسهم ببناء القصر الجمهوري وتقوم أخرى بذات المواصفات ببناء دار المؤتمر الوطني وبعض الأجهزة الحساسة الأخرى (وأنا نصف متأكد بأنه ليس هنالك أي تحديق خفي وأيضاً أجد نفسي اتساءل وبمنتهى البراءة ترى لماذا لم تبن الصين لهذا الشعب جامعة للتكنلوجيا والتصنيع والتنمية المعاصرة.