منى عبد الفتاح : الأقصى… قلقٌ مع وقف التنفيذ
عندما أحرق يهودي أسترالي المسجد الأقصى في 1969، قالت رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك، غولدا مائير: لم أنم طوال الليل. كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان. وعندما أشرقت شمس اليوم التالي، علمت أنّ باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده. عند طلوع الفجر، لم تجد ردة الفعل التي توقعتها، بل فُوجئت بأنّه لم يتم رصد أي تحرّك من نوعه، وطمأنتها مخابراتها بأنّه لن يكون هناك احتمال لهجوم من هذا النوع. توالت بعد ذلك المجازر وأعمال الهدم في جنبات الأقصى الشريف، ومحاولات نسفه، حتى قيام انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000.
والآن، عندما يُقتحم الأقصى، لا تجد من يتنادون بجدية كما يتنادون في ظروف مشابهة لردّ هذا العدوان، ونكتفي جميعاً بالإدانة التي تآلفت معها دولة الكيان الصهيوني، دليلاً على أنّه ليس ثمة ما يُقلق من العرب. ووصل الأمر بحال الأمّة العربية إلى أن تَعدّ المواجهات بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين أخباراً عادية، بل أصبحت روتيناً يومياً، يتناوله شريط الأخبار أسفل الشاشة بعدم اكتراث. وحتى ببلوغ قسوتها، لم ترتفع أخبار القتل والتنكيل والأسر إلى حكم الكوارث، بل ظلت في خانتها، من دون أن تهتز شاشاتنا. وكلما تزداد المواجهات تجترّ معها أرتالاً من أدب المقاومة وقصصها التي تترك في الحلق غصّة، وفي العين دمعة حرّى.
وبتوجه المصلين من قطاع غزة إلى أداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، تخفق القلوب، وتتوجس النفوس عند استدعاء الذاكرة المواجهات، في أول جمعة من شهر رمضان في يوليو/ تموز 2014، في رام الله في الظروف نفسها، نتيجة رفض جيش الاحتلال السماح للمواطنين الفلسطينيين الذين تقلّ أعمارهم عن الخمسين عاماً من التوجه إلى المسجد الأقصى لأداء صلاة الجمعة. واليوم، تزيد القوات الإسرائيلية من فرض الإجراءات المشدّدة، لتسمح للمصلين الذين تزيد أعمارهم عن 50 عاماً من مناطق قطاع غزة، ولكن، بالتنسيق مع الشؤون المدنية و”أونروا”، ومنعت من هم دون ذلك من الوصول إلى القدس.
ولا تفتر الذاكرة من الاجترار الأليم، ومن ذلك أنّ إسرائيل استعادت، في الثلاثين من نوفمبر/
”
لا يُعقل ولا ينبغي أن يكون الحال نفسه على ما كان عليه منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، فمتى يرتقي هذا العالم إلى فعلٍ أكبر من القلق؟
” تشرين الثاني في 2014، ولأوّل مرّة، ذكرى مناسبة “طرد اليهود من الدول العربية وإيران”، ليتم اعتماد ذلك اليوم لإحيائه سنوياً. ليست هذه آخر عجائب إسرائيل، لكن الغريب تناسي الحق الأصيل للشعب الفلسطيني الذي ما زال يتم إجباره على التهجير القسري. وقد بلغت إسرائيل من الوقاحة أنها جعلت هذا اليوم مناسبة إسرائيلية، تُدشن لها الاحتفالات وتُطلق في فعالياتها الخُطب عن الظلم والقهر والحقوق، وفوق ذلك المطالبة بالتعويضات وإعادة أموال تركها اليهود في دول عربية.
إذا كان هناك من بقية عقل ومنطق، فإن علينا السؤال عمن يحقّ له أن يعوّض، ومن الذي حقه أن يتم تعويضه، وعلى هذا العالم الذي اختلط حقّه بباطله وعدله بظلمه أن يجيب.
لم يتوانَ الإعلام العربي في اهتبال هذه السانحة، ليعرب عن أنّ إحياء ذكرى تهجير اليهود من الدول العربية يجب أن يقابله، ولو على سبيل اللباقة الديبلوماسية، إحياء لذكرى تهجير الفلسطينيين. ولكن، دعونا نعقد مقارنة بسيطة، هي أنّ القضية الفلسطينية يتم ذكرها مراراً في وسائل الإعلام، وفي محاضرات وندوات ثقافية، أمّا قصة تهجير اليهود فلن تحتاج لكل هذه الجلبة، وستصعد مباشرة إلى الحلبة الدولية، كما توعّد الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين الذي لا يملك صلاحيات وسلطة تنفيذية تخوله هذا الوعيد.
من هنا، البلدان العربية في موقف لا تُحسد عليه، وهي تتبنى، من موقعها الإسلامي، الضعف في نصرة فلسطين، بينما العداء للسامية وكراهية اليهود لا تعود إلى المنطقة العربية، وإنّما تعود في تناميها إلى آلاف السنين. ويمكن أن يُثار السؤال الجدلي: لماذا هرب اليهود من العالم المسيحي، بعد المحرقة النازية في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى العالم الإسلامي؟ ولماذا تنتقي إسرائيل، الآن، في علاقاتها الهروبية إلى الدول المسيحية في المنطقة، في هجرة عكسية.
غريبٌ أن يحدث هذا في عصرٍ يغني فيه المجتمع الدولي للقانون والعدالة. وإذا كان هناك استثناء من نظام دولي يُحابي الدول التي تُعتبر من القوى العالمية، أو لديها حلف مع دولة قوية، مثل أميركا، فذلك كان عندما ساد النظام الدولي القديم قطبيان، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وتكرّر عندما صار النظام الدولي الجديد بعد الحرب الباردة قطب واحد، هي أميركا، تقوم على ترسيخ قوتها وهيمنتها. الآن، لا يُعقل ولا ينبغي أن يكون الحال نفسه على ما كان عليه منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي منذ ستين عاماً، فمتى يرتقي هذا العالم إلى فعلٍ أكبر من القلق؟