عثمان ميرغني

(قائد ثاني)!!!.. أمجاد!!


كنت أقف في وداع أحد الأقرباء أمام صالة السفر في مطار الخرطوم.. تقدم مني شاب لا أعرفه.. وقال لي إنه مسافر للعمل في السعودية.. بعد ثلاث سنوات حسوماً قضاها بعد التخرج في كلية الهندسة.. متسكعاً بلا عمل.
قلت له (تسافر وترجع بالسلامة) فانتفض كالملدوغ وقال لي بمنتهى الجدية مخلوطة ببعض عتاب (لا.. لا.. لا.. أريد أن أعود).
جرب واسأل أي شاب تجده أمامك (عينة عشوائية كما يقول خبراء الإحصاء).. ما هو حلمك؟، أو أي شابة..
طبعاً لو تجاهلنا أي أحلام (مهجرية) مثل ذلك الشاب الذي كان من حظه أن يعثر على عقد عمل في السعودية.. فإن الأحلام لن تخرج عن الحصول على وظيفة.. عن طريق لجنة الاختيار أو بغيرها.. بواسطة أو بغيرها.. أي وظيفة بأي أجر.
أو فرصة حظ في الصحارى؛ بحثاً عن الذهب مع الملايين الذين تركوا الزراعة وكل شيء وتناثروا في كل صحارى السودان حتى اقتحموا حدود دول مجاورة.
ثم بعد فرصة العمل.. بيت صغير.. مثل (بيوت الصحفيين) في الوادي الأخضر أو الحارة (مية).. غرفة (مترين في مترين) ومطبخ (متر ونص في متر ونص).. بعد التقديم والقرعة والمقدم والتقسيط المهين.
لو تمددت الأحلام قليلاً.. فلربما ركشة من باب الاستثمار الإضافي؛ لسد فجوة المرتب في مقابل المصروفات الحتمية اليومية.
قبل عدة شهور تعطلت سيارتي فأوقفت سيارة أجرة (أمجاد).. لفت نظري من مظهر السائق وبعض كلماته التي نطق بها أنه- ربما- يمثل وجهاً آخر من الأزمة السودانية.. فسألته عن وظيفته الحقيقية.. والله العظيم ذهلت.. موظف حكومي في درجة رفيعة للغاية لكن أحيل إلى المعاش قبل عام واحد.. قال لي إنه يعمل على سيارة (أمجاد) من الصباح حتى الخامسة.. موعد عودة ابنه من الجامعة ليترك له السيارة بقية اليوم حتى المساء.. ثم قال لي (بغير ذلك لن أستطيع دفع مصروفات المعيشة ورسوم التعليم لأبنائي).
أحلام هذا الموظف الرفيع.. الذي استثمرت فيه بلادي سنوات طويلة من الخبرة.. أن يجد ما (يستر) عرضه، وتعليم أولاده، من ظهر سيارة (أمجاد).. لا أكثر.
والله العظيم لو كنا بلداً فقيراً بلا موارد لما استحق حالنا نصف دمعة.. لكننا بلد ثري من كل شيء.. حتى الموارد والأصول البشرية.. فنحن من علمنا كثيراً من الشعوب الأخرى، وأسسنا لدول كثيرة مؤسساتها التي تفاخر بها اليوم.
أول شروط الخروج من هذا الحال.. أن نكسر أحلامنا البائسة الفقيرة.. ارفض- بملء فيك- أن تكون تلك أحلامك- مهما كنت- عمراً أو خبرة أو تأهيلاً- أكبر بأحلامك ليكبر وطنك بك.
كل ذلك يأتي تحت بند (كرامة الإنسان السوداني).. من هنا نبدأ استرداد كرامتنا.. بأن نكبر بأحلامنا، ونصرُّ عليها.. فالإنسان لما حلم بالطيران تحقق حلمه- ولو بعد حين..
نحن لسنا شعباً فقيراً.. إلا أن هناك من له مصلحة في إقناعنا بذلك.