محمد لطيف : الدولة العميقة.. في الدامر!
غادرت الخرطوم وأجواءها مشحونة بموضوع الحوار الوطني.. منطلقاته ومآلاته ومستقبله ومخرجاته.. وجهتي عطبرة.. وحين أقصد عطبرة.. فالجغرافيا والصحافة يفرضان المرور بالدامر.. حيث الحكومة.. أو مركز القرار.. وحيث أنني كنت أتسامع عن بعد قصة وزير للمالية هناك.. تجرأ.. وألغى بعض الحوافز.. أو بالأحرى.. أعاد توجيهها وجهة عامة.. بعد أن كانت وجهتها خاصة.. تذهب لجيوب بضعة موظفين.. فقد كان موضوع الحوافز هذا.. بالنسبة لي حافزا إضافيا.. للمرور على الدامر.. عاصمة الولاية.. ويبدو أنني كنت محظوظا.. فلم التق وزير المالية.. المغضوب عليه وحده.. بل التقيت في معيته السيد نائب الوالي وزير التخطيط العمراني بالولاية.. المهندس حسب الرسول النعيم.. ليستغرقنا نقاش مطول بدأ بالحوافز.. ولكنه لن ينتهي عندها..!
حين بادرت بسؤال السيد عوض السيد الزبير وزير المالية عن حقيقة إلغائه لحوافز كان يتقاضاها العاملون بالولاية.. كما سمعت.. قال لي لم ألغ أي حوافز ولكنني قررت إعادة توجيه المبلغ الذي كان يذهب لمصلحة أفراد لمصلحة المجتمع عموما.. ولكن قبل أن أمضي مستفسرا.. كان المهندس النعيم نائب الوالي يلتقط القفاز ويقود النقاش إلى وجهة أكثر تعقيدا حول كيفية إصلاح حال الخدمة المدنية.. وكيف تتقدم الواجبات على الحقوق.. وكيف نعدل القوانين بما يمكن الدولة من حفظ حقوقها.. وقبل ذلك حفظ هيبتها.. المهندس النعيم يقولها صراحة.. قوانين الخدمة المدنية تهدر هيبة الدولة ولا تحفظها.. وحين يجدني ما زلت عند محطة الحافز الذي ألغي يتولى المهندس النعيم وزير التخطيط العمراني الشرح كمن يدافع عن زميله وزير المالية.. يقول لي: للمالية نوعان من التحصيل.. تحصيل مباشر.. وتحصيل غير مباشر.. وإذا كان الأول واضحا فالأخير يعنون به تلك المبالغ التي تصل لموظف المالية حتى مكتبه.. فلا يبذل جهدا غير استلام الشيكات من مورديها.. تنص اللائحة على منح هذا الموظف سعيد الحظ الذي تسلم ذلك الشيك ما يوازي نصف في المائة من قيمة ذلك الشيك.. غني عن القول أن عددا هؤلاء الموظفين لا يتجاوز أفرادا في ولاية يبلغ عدد عامليها سبعة وعشرين ألفا.. بينما تتحدث الأرقام عن مبالغ طائلة..!
ويكمل وزير التخطيط المتضامن مع وزير المالية شرحه.. الوزير لم يلغ هذا الحافز.. بل بمراجعة بسيطة للمبالغ التي تأتي عبر التحصيل غير المباشر اتضح أنها مبالغ مقدرة تذهب لقلة دون وجه حق.. فقرر الوزير توجيهها لصالح المجتمع بتخصيصها للخدمات بمختلف أنواعها.. سمعت لاحقا أن اتحاد عمال الولاية بصدد تصعيد الأمر حتى إلى المستوى الاتحادي إن دعا الحال.. كما سمعت بالتزامن أن أحد الضباط الثلاثة بالولاية من المعنيين بالأمر مباشرة..!
صحيح أن موضوع الحوافز قد شغل حيزا مقدرا من زمن اللقاء.. ولكن الصحيح أيضا أننا قد طوفنا كثيرا بمقومات الإصلاح ومطلوباته.. ولمست لدى الوزيرين عزما على الإصلاح.. رغم تكبيل القوانين المقيدة لا للحريات بل ليد الحكومة في فرض الانضباط الوظيفي وبالتالي هيبة الدولة.. بما يحقق النهوض المطلوب.. خلصنا إلى أن قوانين العمل في حاجة لمراجعة جذرية.. خلصنا إلى أن الدولة في حاجة إلى سياسات جديدة تقود النهضة المنشودة.. أغرب ما سمعت في ذلك اللقاء أن الدولة العميقة إنما تقبع في دواوين الخدمة المدنية.. وأهم ما خرجت به من هناك أن لولاية نهر النيل مبادرتها للإصلاح المؤسسي.