منى عبد الفتاح : وقفة للمعلم في يومه
إذا كان شأن التعليم في بلداننا العربية ذا شجون، فشأن المعلم شجنه خاص.
نذكر المعلم دوما وفاء له، ومن حقه الاحتفاء به في كل حين، خاصة في يومه الموافق 5 أكتوبر من كل عام منذ عام 1994م.
يعتبر هذا التاريخ بمثابة إحياء لذكرى توقيع التوصية المشتركة الصادرة عن منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في عام 1966 والمتعلقة بأوضاع المعلمين.
وعن دور المعلمين العظيم قال لي كوان يو مؤسس سنغافورة «رفضت أن أوجه موارد الدولة لشراء السلاح كما يفعل حكام العالم الثالث، بل وجهت معظم موارد الدولة للتعليم، فتحولت سنغافورة من دويلة فقيرة مديونة إلى واحدة من أسرع اقتصادات العالم نموا، فالتعليم هو سر نجاح سنغافورة».
وأضاف «إلى أي درجة كانت سنغافورة الستينات قاسية: فقر ومرض وفساد وجريمة..قال الجميع: الإصلاح مستحيل، لكنني التفت إلى المعلمين وكانوا في بؤس وازدراء، ومنحتهم أعلى الأجور، وقلت لهم: أنا أبني لكم أجهزة الدولة وأنتم تبنون لي الإنسان».
وقال د.
فيكتور شيا خبير جودة التعليم بكوريا الجنوبية «لا توجد دولة تتحمل إيجاد جيل كامل دون تعليم جيد، فهذا الجيل سيدمر الدولة داخليا لتتفتت وتفقد وجودها.
الشرق الأوسط أهمل التعليم، والآن يدفع الثمن».
هذا القول يعكس حقيقة التعليم في الشرق الأوسط، وبلداننا العربية على وجه الخصوص.
قد تنفق الدولة من أجل التعليم كما فعلت سنغافورة، ولكن يجب أن يكون الإنفاق على أساس سليم حتى يكون قوامه المعلم الإنسان المجبول على حب العمل والإخلاص فيه.
كما يجب أن يسبق الإنفاق على العملية التعليمية إنفاق على تأهيل المعلم نفسه.
مفارقات وضع المعلمين في بلداننا العربية متباينة إلى حد كبير، ففي الفقيرة منها يعيق أداء المعلم ضيق الحال والأوضاع الاقتصادية السيئة والسعي وراء لقمة العيش، وفي الغنية منها يزيد الإنفاق ويوجه إلى رفاهية المعلم دون الإنفاق على تأهيله وإبقائه مواكبا لمناهج وطرق التدريس في الدول المتطورة.
وهذا بالضبط ما عناه لي كوان يو عندما طلب من المعلمين في بلده سنغافورة أن يبنوا له الإنسان.
وقد عنى بذلك مساهمتهم الأصيلة في العملية التربوية، وهي أساس العملية التعليمية، وأن يكون المعلم قدوة لتلامذته بفضل ما يمتلكه من خصال ومؤهلات وروح محببة في التعليم وفي المناهج المختلفة، وناشرا للروح الطموحة الخلاقة المبتكرة.
وعن بث هذه الروح الداعمة للعملية التعليمية تحضرني ذكرى أيام تلمذتي في المرحلة المتوسطة حين وزعت علينا المعلمة في حصة الأدب الإنجليزي كتابي «جزيرة الكنز» و»جين إير».
وقد كانت المعلمة المحبوبة من الطالبات هي من ألقت مرساة ولعي باللغة الإنجليزية ورعت ذلك الحب بتحفيزي وإهدائي كتبا أخرى غير المقررة.
وقد كانت مدرستنا تعج بروائع كتب الأدب الإنجليزي المقررة منذ سنوات طويلة سبقت..قصص تحكي عن رحلات الألم والمغامرة، وصناعة العقل.
من ألمها انطبعت في رأسي أحداث تلك القصص، فساهمت في صقل موهبتي وصارت مداد خيالي وقلمي، كما ساهمت في اعوجاج خفيف للساني يزهو الأهل به عند سماعه.
شعر كل من تعلم قبلنا بعافية تعليمه تلك الأيام، كما نشعر نحن الآن مقارنة بتعليم هذه الأيام.
وكنتيجة عملية لم يكن التحصيل الدراسي والنجاح هو النتيجة الجيدة الوحيدة، بل غرست فينا طريقة التعليم تلك حب القراءة بشكل عام، كيف كنا نستعير الكتب ونتعلق بها وبأبطالها.
ولطريقة التدريس يرجع فضل ارتشافنا توق المعرفة وبريقها، الذي نبحث عنه في عقول تلامذة هذه الأيام، عل وعسى أن نجد من يشعل تلك الجذوة الأخاذة مرة أخرى.