بدرالدين حسن علي : ورحل المسرحي السوداني ابسن عبدالقادر في زمن الفجيعة والأحزان
أشد ما آلمني في كل حياتي الممتدة لعشرات السنين من المعافرة والمصابرة والجلد والمكابسة والشقاء والكفاح والمصارعة النفسية والعقلية لإستيعاب حقائق
العصر ، أن يتعطل الكومبيوتر الخاص بي وهو الذي أصبح عشقي وحبي ورفيقي وصديقي ألجأ إليه في كل الأوقات أسكب فيه عصارة كلمات أعبر فيها عن بعض ذكريات ، أن يتعطل في زمن الفجيعة والأحزان ، وبما أن مخي ” جزمة ” فقد أصريت على إصلاح الأمر بنفسي متجاهلا مقولة ” سيب الخبز للخباز ولو ياكل
نصو” لاعنا وكارها لأولاد الكومبيوتر !!! ما عدا صديقي الحميم واسمه حاتم فأضفت كلمة ” الطائي ” وأخيرا لما ” غلب حماري ” لجأت للخباز ” مكرها أخاك لا بطل ” .
في ذات صباح مشرق من عام 1998وكنت ملازما المستشفى القاهري المشهور” القصر العيني ” تلقيت خبر رحيل زوجتي المخرجة السينمائية الفذة حورية حسن حاكم من طبيبها الخاص ” د. محسن إبراهيم ” ، ففقدت تماسكي تماما وأصبت بحالة من الإغماء دامت عدة أيام تلقيت خلالها علاجا مكثفا نجح بمساعدة الرب سبحانه وتعالى على الشفاء المؤقت لفهم الحدث المأساوي المحزن ، كل ذلك لأن حورية لم تكن زوجتي فقط بل الرفيقة والصديقة كل سنوات حياتها معي لم أعطيها الفرح الذي كانت تتوقعه مني ، وإنما أعطيتها بعض إبتسامات وأياما كالحة وسنوات من العذاب والهموم ، بينما أعطتني هي ” البنت
الحديقة ” كما قال صديقي خطاب حسن أحمد ، أعطتني مهيرة بعد أن فقدت فلذات كبدها الثلاثة فتوشحت في المرات الثلاث بالصبر الجميل ولم تكن تردد سوى ” سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري وأصبر حتى يأذن الله في أمري ، وأذن الله في أمرها فأخذها مني وما تزال معه ، كيف لا وهي خادمته وغشت بعدها وما زلت في كنف البنت الحديقة !!!
داهمتني الأمراض من كل ناحية ولم أكن أردد غير ” سأصبر حتى ……ولكن أيضا في صباحات قاتمة من أعوام الثمانينات رحل عني أقرب الناس لي ، رحل الشيخ الوقور والدي والشيخة الوقورة والدتي وبعض أقارب وأصدقاء قتلني رحيلهم كما قتلني رحيل الشيخ الوقور والشيخة الوقورة ، وكان أكثر أنواع الرحيل إيلاما رحيل معلمي وأستاذي وخالي المحترم جدا الفكي عبدالرحمن المدير الأسبق للمسرح القومي بأم درمان، ولم يترك لي سوى هذا الرجل الجبار الكبير الحنين الأستاذ الآخر حمدنالله عبدالقادر، والذي قلت عنه في كتابي الأول عن المسرح في السودان أنه ” إبسن السوداني ” وكنت أعني النرويجي هنريك إبسن الذي لم أره في حياتي وإنما قرأت جميع مسرحياته : بيت الدمية ، البطة البرية….إلخ ، وعندما قرأ ما كتبت وكان جالسا مع خالي صديقه الوفي وقف لي محييا ومرحبا فنزلت مني دمعة لن أنساها كل حاتي، فأصبح هو أيضا خالي الثاني ، وبعد سنوات من الزهو والمجون والجنون بالمسرح وبحمدنالله عبدالقادر تم تعيينه مديرا بالإنابة لمعهد الموسيقى والمسرح ، فتلقى في بداية تسلمه عمله الجديد خطاب فصلي من العمل وكنت أستاذا بالمعهد فناداني في مكتبه ، وعندما دخلت وقف للمرة الثانية ودمعة تساقطت من عين والد حنين جدا ليقول لي لقد تم فصلك وسلمني الخطاب بيد مرتجفة ولن أحكي بقية القصة
المحزنة ، تداعت كل تلك الذكريات مع رحيل حفصة والدة الصديق الرجل الهميم عبدالوهاب همت وشقيقة الصديق الرائع الجميل محجوب عباس والصديق الآخر جعفر عباس والسؤال القاتل عن أحوال المقاتل الوليد الحسن ، فما أقساه من رحيل وما أقساه من حزن دفين ….
لن أقول أبدا وداعا يا حمدنالله فذكراك ستبقى مئات السنين .