حسين خوجلي

أشياء للذكرى


* اتفق قاطع الطريق وصديقه أن يتركا فعل ولغة الشقاء الغليظة وأن يستبدلاها بفعل ولغة الجدل وعكفا على الموروث الشعبي الهش في التديُّن وابتسما بعد دراسة وتمحيص فقد وجداها وكادا أن يجريان عريانين كما فعلها نيوتين.
اغتالا كلبهما صاحب الوفاء القديم وبكياه حتي مطلع الفجر وقبراه ثم أقاما عليه قبة وضريحاً وتناديا على الشيخ أبو جريوة، وأقبلت النساء يحملن بيد سواد الحظ وباليد الأخرى بياض الشيخ وهديته.
وتكاثرت الهدايا والعطايا على الراحل الصالح أبو جريوة .. لتنتقل إلى أيدي السدنة من حارسي الضريح ورعاته.. لكن أحدهما لاحظ أن القسمة دائماً لا تكون عادلة فاختلفا بعد الاتهام فاضطر الخازن والقاسم أن يبرّئ ذمته فنسي فعلته.. أقسم قسم النساء أمام الضريح (وحاة شيخي أبو جريوة دا لم أظلمك ولم آخذ أكثر من نصيبي).
وقد ردّ عليه صاحبه في التدبير القديم بابتسامة معلقاً على قسمه الزائف (يمكنك يا صاحبي أن تُقسم بكل شئ وأصدقك لكن دا دافننو سوا).
وبمناسبة الدفن فإن الحركة السياسية السودانية ستجد نفسها تقف في ظل ضريح الفكي أبو جريوة وتتناسي بالتقادم اغتياله فتُقسم عليه ليصدقها الناس، فأحزاب المعارضة بين أجنحتها لها ضريح والإسلاميون بجناحيهم لهم ضريح وحزب الأمة الصادق جداً لهم ضريح والاتحادي الشريف له ضريح والاتحادي الأمير والغني له ضريح، والروشتة الوحيدة القادرة على إايقاف التجنُّح والخلاف و(القَسَم الزائف) ترتبط بثورة ثقافية تُحيل الأحزاب إلى مؤسسات مُنتجة ومستثمرة في الناس والأشياء.
* المرجعية العربية السلطوية في مجال الأفكار والسياسة والاقتصاد والدفاع والامن والشأن الخارجي تجد عسراً شديداً في كسب وُد الجماهير أو إقناعها بعد أن تعرضت هذه المرجعية لفقر دم رهيب في الصدقية والجدية والأعمال والأفكار المرتبطة بالاستراتيجيات.
فلم يعد المواطن العربي ما بين الخليج والمحيط يصدق حديث وزراء المالية حول الميزانية والسياسات ونسب النمو وانخفاض التضخم. فالأغلبية من الناس لا تقرأ مثل هذه الأخبار في الصحف ولا تستمع لها من التلفاز والإذاعة بل إنها تعتبر أن برامجها وصفحاتها في الصحف هي مجرد مساحات فقيرة ومضجرة لاستقطاب الإعلان ولاسترضاء بعض التكنوقراط.. بل إن بعض الصحفيين يتجهون لمثل هذه المساحات غير المقروءة لأنهم باختصار لم ينجحوا في الصحافة الرياضية أو الفنية إلا من رحم ربي .. والإنسان العربي أيضاً يعتبر أن الفتاوي التي تخرج من تحت ألسنة وزراء الأوقاف العرب ومن إمام المسجد الذي يصلي فيه الرسميون ولجنة فتوى الدولة هي مجرد حصص في الدين المتفق عليه صُنعت خصيصاً لتدغدغ مسامع الجماهير ولا تزلزل الأرض تحت أرجل السلاطين الذين لهم العذر وهم يصادقون المستعمر وهم يشاركونه وهم يقاسمونه وهم يسمحون لأحذيته أن تمشي فوق مناكبهم ونكباتنا.
وليس هذا الاكتشاف القارص هو من حق الطبقة الوسطي أو البرجوازية أو ظرفاء التكنوقراط .. بل إنه اكتشاف معرفي يعلمه كل الدهماء والعامة والمسحوقين .. ويطبقه – رفضاً – الآن في ميادين الثورات الشباب العربي الذي بلغ به الغُبن حد الانفجار.
* فى المدارس الوسطى استوقفنا عشرات الأساتذة الأذكياء والمعلمين الأعلام.. بشّرونا بالدعوات والكتب والمنشورات. وتبرعوا لنا بشرح الأفكار والرؤى وبرامج تغيير الدنيا ورسم خريطة جديدة للبشرية.
على أيديهم حفظنا الشعر والأصول والمبادئ والثقافات رغم ضآلتها، فقد كنا نحس بأننا أثرياء بهؤلاء المستقطبين «بكسر القاف» الذين يحملون لنا هدايا العقول، كان فيهم اليساريون والقوميون. وكان على طليعتهم الإسلاميون.. وللتاريخ فقد كانوا جميعاً ومن كل المعسكرات المختلفة والمتباينة، أصحاب خلق ونضج وأريحية وحيوية وانفتاح.. وكان الطلاب آنذاك عملة نادرة.. وحين يستطيع أى معسكر أن يجنّد طالباً يبدو كأنما فتح مدينة، تحتفل به الدائرة والأسرة والشُعبة. ويقيمون له احتفالاً مهيباً يخرج منه بمكتبة وهدايا وإخوة وتاريخ.
واليوم أصبح الجميع لا يهتمون بالطلاب إلا فى إطار الكتلة، فماتت المشاعر الدافئة حول القيادات الجديدة، فأصبحوا «نسخة» واحدة أينما اتجهت إلا من رحم ربي..
وصارت الحركة الإسلامية التى لا تتمنى في كل الحكومات إلا وزارة التربية والتعليم لكي تتجه مباشرة صوب الطلاب، أو بالأحرى المستقبل.. صارت الآن وزارة التربية عندها عبئاً ثقيلاً تدخله فى إطار القسمة السياسية الضيزى والترضيات..
إن وزارة التربية والتعليم التي كان يتطلع لها قديماً الشهيد محمد صالح عمر والبروفيسور دفع الله الترابي والبروفيسور زكريا بشير إمام.. أصبحت الآن آخر التوقعات فى حقائب النجوم.. وأصبح وزيرها خارج إطار التوقع. ولو لم تجد لها السلطة من تسترضيه، تخترعه.. ورحم الله نزار، فقد كان يعتقد ان الحب في الدنيا بعض من توقعنا، لو لم نجده عليها لاخترعناه.
* توقفت زماناً من الكتابة في أمر العراق ولكنني أتسلى برائعة مطر عنه:
حين أطالع اسمه تنطفئ الأحداق
وحين أكتب اسمه تحترق الأوراق
وحين أذكر اسمه يلدغني المذاق
وحين أكتب اسمه أحس باختناق
وحين أنشر اسمه تنكمش الآفاق
وحين أطبق اسمه تنطبق الأطباق
يا للأسي منه عليه دونه فيه به
كم هو أمر شاق
أن أحمل العراق..
* قال الشاهد إن السياسي المصري الوحيد الذي اخترق طوق البوليس الحربي ومجموعة المخابرات كان السياسي المسيحي مكرم عبيد وصاح يا أولاد الكلب «تمنعوني الفاتحة في الشيخ حسن البنا»، وسارت جنازة أكرم الدعاة على يد بناته وأبنائه الصغار. أفضل للمسلمين أن يكتبوا تأريخ الاقباط فإن فيهم مآثر وشهامة ورجولة، فالرجولة فعل شرقي قبل أن تكون فعلاً إسلامياً.
* كان شاعر حزب الأمة والأنصار مختار محمد مختار عليه الرحمة له ولع بأشعار وكلمات الوداع في حق الكبار وقد ذكر لي من ذلك الشئ الكثير ولكن ما بقي في الذاكرة خطبة المحجوب عليه الرحمة في رحيل السيد الصديق المهدي وقد أخذها من رثاء نقيب الأشراف بالمدائن وقالها شاعر مجهول استدل بها المحجوب فأبكى الجميع والجثمان مسجى:
فقد قلت للرجل المولّى غسله
هلا أطاع وكنتُ من نصحائهِ
جنَّبه ماءك ثم أغسله بما
أذرَتْ عيون المجد عند بكائه
وأزِل أناوية الحنوط ونحَّها
عنه وحنّطه بطيبِ ثنائهِ
ومُرِ الملائكة الكرام بنقله
شرفاً ألستَ تراهمُ بإزائه
لا تُوهى أعناق الرجال بحملِهِ
يكفي الذي حملوه من نعمائِهِ