منى عبد الفتاح : سنغور ومشروع الأفريقانية
ظلت مقولة ليبولد سنغور، الشاعر الرئيس، والمفكر الأفريقي السنغالي “أنت أسود أي أنت جميل”، تظلّل أرواح كل الملونين في الأرض، بتحركّها بين درجات الجمال وذوبانها عند فواصل الألوان.
أُطلقت هذه العبارة في النصف الأول من القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت ظلّ صداها يتردد في أحضان الغابات السمراء عندما ظهرت أشكال جديدة من الأدب الملحمي الأسطوري وبدأت الكتابات الفنتازية والكفاحية الإصلاحية تراوح مكانها، مبتعثة من أشجان كانت وقتها منطوية على ذاتها.
لو كان “سنغور” يعلم أنّ مقولته تلك سوف تؤجج المشاعر وتظل مشتعلة عشرات العقود، لاختصرها في تعبير أبسط ولفكر مرتين قبل أن يطلقها، أو لانتظر قليلًا حتى تتشبع الفكرة التي رأى فيها صوت الإنسان الداخلي لأهل الحضارات الأخرى من غير الأفارقة أصواتًا عذبة، استطاعت بعد كل هذا الزمن أن توازي ما جادت به هذه الحضارات.
لو كان “سنغور” يعلم أنّ هذه الفكرة مؤلمة أحيانًا وقاتلة أحيانًا أخرى، عندما يتبناها الباحثون أبدًا عن الهوية، لانتبه إلى مريديه من السود والبيض معًا ولاختصر المسافة والزمن ووجهها مباشرة، لينتقل مريدوه من أتون الصراع الفكري إلى الفكرة الحرة ليس لإثباتها ولكن ليثبت أنها تشمل أيضًا “أنصاف السود” .
ولا يتفق سكان شمال وغرب أفريقيا بهذه الفكرة مع شعور الزنوج الأصليين فحسب، وإنّما يتفقون أيضًا في شعورهم بالكرامة، ونتيجة لشعور الزنوج بالكرامة الذي جعلهم يدركون شخصيتهم بقوة ويصرخون دون خشية أو خجل بأنهم آدميون يوازون غيرهم من العروق البشرية، يصرخ هؤلاء الآن مطالبين إنصافًا أكثر للجنس الأسود في هذه القارة المختلف عليها.
إنّ تبني الزنوجية ليس وهمًا أو حلمًا وإنما بحثٌ عن ذات ضائعة، فهي كما قال سارتر بأنّها موقف عاطفي حيال العالم، وهي لدى الأفارقة موقف إنساني حيال الكون والعالم، ولم يجئ انضواء كثير من المثقفين الزنوج تحت لواء الزنوجية إلّا لتمثل إدراكهم للونهم وعرقهم الذي يعتمد على رهافة وحساسية الروح السوداء الشفيفة المدافعة دومًا المتحركة كردِّ فعل حيال كل تسلط انتابها عبر الزمان.
إذا كان هذا إحساسًا صادقًا لدى الكثيرين، لماذا أصبح عشق جمال الإنسان الإفريقي وعشق اللون الأسود واعتناق هذه المعاني من أفكار الزنوجية اتهامًا ؟ لماذا يقف كل من يستطيع إبراز العشق لإفريقيا الأرض والغابة والنيل والخضرة موقف المدافع أبدًا وكأنّ هذه الأشياء مفروضة عليه فرضًا، أو كأنّ هذا الاحتفاء مخصوص به أناس معينون من أهل هذه القارة؟
في الواقع لا ينبغي أن يكون هذا الاحتفاء مخصوصًا لأيّ كان وإنّما هو عشق مباح لكل من كان، وذلك لأنّ شمال أفريقيا مثلًا رغمًا عن كل شيء هو قلب أفريقيا النابض وجوهرتها السمراء المتلألئة تحت شموسها الاستوائية، لا نحتاج أن نختار مثالًا أو منبرًا مثل مجلة “إبوني” أو “شجرة الأبنوس”، لا يستلزم الأمر أن نختار توجهًا وشعارًا مثل ما اختارته المجلة منذ تأسيسها عام 1942م أن تتوجه نحو الأمريكيين الأفارقة تحت شعار: “إنّ أحلام الأمريكيين السود يمكن أن تتحقق”، هذا الشعار لا يستطيع تحقيق أحلام الأفارقة وذلك ببساطة لأن همّ الحلم همٌّ عام وليس همّ فئة معينة، لا يحتاج أمره للتمييز بخط منفصل حتى نبرهن أنّ لدى كل الأفارقة قضية.
وقضية الأفارقة تأتي من هذا التواجد الكبير في خلد الإنسان، هو إرجاع الاعتبار لماضي أفريقيا وثبات خصوصيتها وجمال قيمها الحضارية، إنّ رفض إنسانها للاندماجية، ليس مؤشرًا لاختيار خط حضاري منفصل، وإنّما نابع من أعماق كل المكونات الأخرى حتى ولو لم يعترف الآخرون، ليست مضادًا حضاريًا وإنّما أهلية وحق مشروع في أن تكون لكل من توشح جلده السواد وغمر قلبه هذا الوجد الكبير رؤية ثقافية مستقلة، ومن طبائع الأشياء أن يسعى البعض لاحتواء توقد الوجدان والمشاعر الفياضة، أما غير الطبيعي أن نتصور أنّ الأفريقانية ينبغي أن تكون حليفًا لأي مشروع حضاري آخر.