(النظام الخالف).. الوهم والحقيقة:الحوار الوطني..نسخة جديدة من صراع الوطني والشعبي
فاجأ المؤتمر الشعبي برئاسة الترابي المتحاورين داخل قاعة الصداقة مثلما فاجأ المتابعين خارجه، بتقديم ورقة داخل لجان الحوار الوطني وصفها بعض المراقبين بأنها (ربيع عربي أبيض)، ووصفها آخرون بأنها تأشيرة خروج للمؤتمر الوطني من القصر الجمهوري إلى حين..ولم يستبعد البعض الذين يستريبون في ما يفعله الشعبي أن تكون الورقة مجرد قنبلة صوت أراد بها الشعبي ان يشد أنظار المعارضة الى حوار الداخل، ويرغّبها في حوار القاعة بدلاً من الانتباه إلى أديس وباريس.
الورقة التي قدمها الشعبي إلى طاولة الحوار الوطني، تبدو ترجمة حرفية ونصية للعبارة اللغز التي دفع بها الدكتور حسن الترابي ذات مرة الى وسائل الإعلام، (النظام الخالف)، وهي عبارة أقرب الى الشفرة وكلمة السر عند الانقلابيين ورجال الاستخبارات العسكرية، ولكنها على كل حال تشبه العبارات التي درج الدكتور الترابي أن يرفد بها الوسط السياسي والإعلامي ويشغله بها حيناً من الدهر لفك رموزها واستنكاه معانيها، مثلما فعل عندما أطلق لفظة (التوالي السياسي)، ومثلما رد على ورقة للدكتور غازي صلاح الدين إبان الخلاف والتي جاء في افتتاحيتها(عقبى السلام الكلام).
ما سر البرود الذي قابل به حزب الترابي تصريحات إبراهيم محمود؟.
قيادي بالشعبي: أي تصريح خارج دوائر الحوار لا يعنينا كثيراً، هذه انفعالات تعبر عن أصحابها.
الوطني يوقن أن ذهاب البشير أو إضعاف صلاحياته يعني طعن الحزب وإصابته في مقتل.
إن النظام الخالف المتجدد الذي يعرف كنهه وتصوره الكامل الدكتور الترابي ومجموعة منتقاة من قيادات الشعبي يمثل بالنسبة لهم كما قال أمين أمانة الحكومة والأمن والدفاع بالمؤتمر الشعبي حلماً مشروعاً وأمنية عزيزة في نظام حكم يخلف النظام الحالي، لكن الراجح أن النظام الخالف الذي يريده الترابي هو ذاك النظام الذي ينهض على البنية التحتية ـــــ اذا صح التعبير ــــــ للحكومة الحالية، ولهذا السبب فإن ورقة الشعبي ركزت بصورة كبيرة على مؤسستي الرئاسة والبرلمان متجافية عن عملية الإحلال والإبدال الكامل في أجهزة الحكم، او إعادة تشكيلها حسبما تشتهي المعارضة الأخرى.
إن أكثر ما لفت الأنظار الى ورقة الشعبي انها تريد أن يتنحى الرئيس البشير طواعية عن الحكم ويعهد الى شخصية قومية بأن تتولى إادارة البلاد لمدة من الوقت، ولا يكتفي الشعبي في ورقته بهذا المقترح الجاف، أو الجافي ــــ كما يراه بعض قادة الوطني ــــــ ولكنه يعمد الى خيارات تلطيفية أو تخفيفية غير أنها كلها تفضي في النهاية الى إضعاف قبضة الرئيس البشير وجعله شخصية رمزية بلا صلاحيات حقيقية، فالخيارات الثلاثة التي قدمها الشعبي هي: إما أن تؤول الرئاسة إلى فرد مستقل بخلاف البشير، أو تؤول لمجلس رئاسي بينهم امرأة، أو يبقى رئيس الجمهورية في منصبه على أن تؤول الصلاحيات كاملة إلى رئيس وزراء.
استهانة بالحوار
وعلى الرغم من الرد الفوري والقوي الذي صدر من المهندس إبراهيم محمود مساعد رئيس الجمهورية ونائب الرئيس لشؤون الحزب, الذي قال فيه ان المطالبة بتنحي البشير وقيام فترة انتقالية مجرد حلم ووهم، إلا ان المدهش ان المؤتمر الشعبي بدا غير منزعج لمثل هذه التصريحات، وكان أقصى رد فعل له هو الطلب من رئاسة جلسة الحوار الوطني ان تستقصي من الأمر، باعتبار أن التصريحات استهانة بالحوار.
عدم الانزعاج (الشعبي) من رد مساعد رئيس الجمهورية ونائبه في الحزب، حمل الكثيرين الى التساؤل عن هذا البرود الشعبي أمام تصريحات قوية من الرجل الثاني في المؤتمر الوطني التي تحمل في طياتها رداً واضحاً على ورقة الشعبي ولفت نظر (الحالمين) بنظام خالف، الى انه من الأفضل النظر الى الواقع والتعامل معه بدلاً من التحليق بأجنحة الحلم الى نظام مجهول ما زال يتخلق في عقول قيادات الشعبي فقط..هذا التساؤل تم الدفع به الى منضدة كمال عمر الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي، وأقرب الأقربين الى الترابي، فكانت إجابته ان المهندس ابراهيم محمود نفى ان يكون قد قال ان المطالبة بفترة انتقالية وهم، وبدت اجابة كمال عمر بالنسبة للمراقبين بأنها محض ترحيل للسؤال وليس إجابة عنه.
رؤية الوطني
وكأنه أراد ان يدحض مقولة كمال عمر، عاد المهندس إبراهيم محمود مرة اخرى الى تأكيد أنه يعني ما يقول، بل ان الرجل الثاني في المؤتمر الوطني مضى الى الأبعد وأكد ان ما قاله يمثل رؤية الحزب بكامله، وليس رأيه هو كقيادي في المؤتمر الوطني، اذ نقلت صحيفة (الأهرام اليوم) ما يلي: (قطع مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس المؤتمر الوطني بأن التصريحات التي أطلقها بشأن الحكومة الانتقالية ووجدت تذمراً واسعاً خاصة من قبل القوى السياسية المحاورة، يعبر عن عن رؤية ورأي المؤتمر الوطني، وليس حديثاً شخصيًا، وأضاف انه لن يعتذر عن حديثه لأنه رأي الحزب، وأشار الى ان ما قاله رأي الحزب يقوله داخل وخارج مؤتمر الحوار الوطني).
هذه الغضبة (الوطنية) من جانب المهندس إبراهيم محمود يقابلها الشعبي بذات البرود المعهود، لكن حزب الترابي يسلك منعطفًا آخر من شأنه ان يفاديه الاصطدام والاشتباك اللفظي مع الرجل الثاني في الحزب الحاكم..المنعطف الذي سلكه الشعبي جاء في شكل حديث صحفي للدكتور محمد العالم أبوزيد القيادي في الحزب، الذي قال ما نصه(أصلاً الحوار مشروع وطني كبير تداعى له الناس من كل صوب، ويجب أن يستمر ولن تؤثر عليه أي تصريحات هنا وهناك.. هذه التصريحات ردة فعل، لأن الورقة التي تقدمنا بها في المؤتمر الشعبي في لجنة قضايا الحكم كانت ورقة أحدثت صدمة لبعض الناس، لكن هي رؤية الحزب والسقف الذي دخلنا به.. رؤيتنا في حكومة انتقالية وإعطاء السلطة للشعب عن طريق الانتخابات.. هذا ما نرى.. المؤتمر الوطني عضو معنا في اللجان يقدم ورقة بما يرى، وكل الأحزاب تقدم ورقة بما ترى.. لكن في لجنتنا عدد من الأحزاب تقدم نفس الرؤية اتفاقاً واختلافاً مع زيادة أو نقصان في أن الحكومة الانتقالية هي ضرورة المرحلة.. الحوار بدأه رئيس الجمهورية وهو رئيس منتخب في انتخابات أجريت قبل فترة بسيطة، ومع الفوز الذي أعلن جاء للحوار بقلب وعقل مفتوحين.. ولن تؤثر مثل هذه التصريحات.. ويبدو أن الأخ مساعد رئيس الجمهورية لم يستوعب خط رئيس الجمهورية).
البشير فقط
د.العالم في حديثه الصحفي حاول الاحتفاظ للمهندس إبراهيم محمود بمكانته في الدولة والحزب ولجان الحوار، ولكنه رأى ان التزام الرئيس البشير القاطع بمخرجات الحوار هو ما يعني المؤتمر الشعبي أكثر من اي تصريح آخر، وإليكم نص ما قاله د.العالم للزميل طلال إسماعيل
(نحن يهمنا «إبراهيم محمود» باعتباره مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس الحزب الحاكم والمسؤول عن الحزب الحاكم في الهيئة التنسيقية العليا الـ(7+7)، وتصريحاته قطعاً لها أهمية، لكننا نعدّ أي تصريح خارج دوائر الحوار لا يعنينا كثيراً، فقط تعبر عن انفعالات أصحابها.. ورئيس الجمهورية قال إن ما يفضي إليه هذا الحوار بمثابة الأمر المقضي فيه.. الرئيس يقول ذلك وشخص آخر يقول غير ذلك، هذا تناقض طبعاً.. نحن نصدق الأخ الرئيس ونثق في أنه يقود هذا المشروع إلى آخره).
تكتيك الشعبي
التكتيك الذي يلعب عليه الشعبي في هذا السياق هو الاعتصام بتصريحات الرئيس البشير نفسه التي أكد فيها التزامه بمخرجات الحوار، ويرى الشعبي ان اي حديث بخلاف ذلك من اي مستوى آخر على صعيد الحكومة والحزب هي بمثابة رد فعل طبيعي من شخصيات ربما تتخوف ان تأتي مخرجات الحوار على حساب بقائها في مناصبها التنفيذية او التشريعية.
غير أن العقبة الكبرى والمسافة التي تفصل بين الالتزام بمخرجات الحوار وبين طرح المؤتمر الشعبي لا تكمن في التصريحات التي صدرت من المهندس إبراهيم محمود، أو من شقيق الرئيس البشير نفسه د. عبدالله حسن أحمد البشير التي وصف فيها من يعتقد ان البشير سيذهب بأنه شخص حالم، العقبة الكبرى التي يجب أن يقتحمها الشعبي هي ان تتوافق مخرجات الحوار الوطني مع ورقة المؤتمر الشعبي نفسه، فكيف يمكن للشعبي ان يضمن ان مخرجات الحوار ستفضي الى الموافقة على ورقته؟.
معضلة المخرجات
رغم أن الشعبي لديه من القدرات والمهارات الكثير لكن من المؤكد أن ورقة المقدمة في الحوار الوطني لن تمر الى نهاية المخرجات دون ان تتعرض الى الكثير من الاعتراض، ولكن يبدو أنه قدم ورقته وهو يرنو الى خارج القاعة، وتحديدًا الى (ضمانة) من القصر الجمهوري.. الضمانة التي يطمئن إليها الشعبي وتحديداً زعيمه الترابي هو ان الرئيس البشير نفسه غير متمسك بالاستمرار في الحكم، وقد كشف الترابي في حوار نادر أجراه الزميل فتح الرحمن شبارقة عقيب خطاب البشير أمام مؤتمر الحوار الوطني أن البشير (حريص على ان تسير البلد بسلام وألا تذهب الى فوضى ويمكن ان يسلم السلطة، وعبود قبل ذلك فعل ذات الشيء وقال امشوا استلموا السلطة، وجائز ان يفعل البشير نفس الشيء).
هذه الضمانة تبدو غير كافية، فزهد البشير في المنصب لا يعني ان مخرجات الحوار الوطني ستخاطب هذه الخصلة الجميلة التي يتصف بها البشير وستتماهى معها، إذ لو كان الأمر كذلك فإن هذا يعني ان الذين يتحاورون في قاعة الصداقة يمسكون بأقلامهم وعيونهم متجهة نحو القصر الجمهوري وآذانهم مرهفة لما يقال هناك، وليس لما يقوله المتحاورون.
كما أن زهد البشير في المنصب الرئاسي لم يمثل مانعاً للمؤتمر الوطني ولا لمؤسساته من إعادة ترشيحه مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أبريل الماضي، وحاز البشير بموجبها على ثقة الناخب السوداني مثلما حاز قبل ذلك على ثقة مؤسسات الحزب ومؤتمره العام.
إن هذه الثقة التي حاز عليها البشير من قواعد الحزب ومن الناخب السوداني ستمثل خط الدفاع القوي بالنسبة للمؤتمر الوطني أمام اي يطرح يريد أن يقصي رئيسه من السلطة حتى ولو من داخل الحوار، فالوطني يعرف أن موطن قوته بل ومصدر شعبيته الجماهيرية تتمثل في الرئيس البشير وليس في أي رمز آخر من قياداته، كما أنه يوقن أن ذهاب البشير او إضعاف صلاحياته يعني مباشرة طعن الحزب وإصابته في مقتل.
المعركة بين الشعبي والوطني الآن حول (القصر الجمهوري) و(البرلمان) وهما المؤسستان اللتان يرغب الشعبي في تغييرهما بصورة جذرية، كما يرغب ايضًا في تعديل الدستور.. وهذه المعركة نسخة منقحة ومزيدة من الخلاف الشهير الذي جرى في الرابع من رمضان، الفروقات البسيطة تكمن في ان أدوات الخلاف حتى لا نقول الصراع، تبدو ناعمة هذه المرة وفيها كثير من التعقل والحكمة.