احمد دندش

عندما صِرتُ (مجنوناً).!


من دون كل شعوب العالم نتعامل نحن السودانيين بشئ من الحذر والريبة مع كل من يرتاد عيادات الطب النفسي، ويصبح مصطلح (طبيب نفسي)-في حد لفظه-دافعاً للهرب واعلان حالة الطؤاري لإنقاذ المخ من شبهة متعمدة تتعلق بصحة ادائه لوظائفه.!
قبيل سنوات، اجبرتني الظروف على ارتياد عيادة لاحد اصدقائي من الاطباء النفسيين، ولازلت اذكر وجه تلك السكرتيرة الذى (تلونّ) بعد ان وقفت امامها اسأل عن صديقي الدكتور وهل هو موجود ام داخل (جلسة) مامنظور مثيلا-لاعلاقة لها بالسر قدور-.
وجه تلك السكرتيرة لم يكن هم الشئ الوحيد الذى (تلونّ)، فعقب خروجي من العيادة مباشرة فؤجئت بـ(الالوان) تغزو كل الوجوه، حتى صبي الورنيش الذى ناديت عليه ليعيد لحذائي بريقه المفقود، رمقني بنظرة غريبة قبل ان يسألني بخفوت: (معاك فكةّ).؟..ذلك السؤال الذى يبدو انه كان (استكشافياً) لمدى قياس قدرة (عقل) العبد لله على استيعاب ان لهذا الصبي حق مالي يجب ان يستوفيه بعد ان ينتهي من معزوفته الخاصة بأوتار ذلك الحذاء الذى ربما صنفه كـ(حذاء زول فاكة منو).!
الغريب ان صبي الورنيش نفسه بعد ان تحصل على مايريد من مال، منحني ابتسامة واسعة قبل ان يغادر وهو يتلفت بحذر، ولاادرى هل كان يتلفت خوفاً من ان الحقه بـ(طوبة)-كحال بعض المجانين شفاهم الله-ام انه كان يتلفت بغرض حرصه على ان لايفوته المشهد القادم الذى سيؤديه ذلك (المجنون)-الذى هو انا- في الشارع العام، لكن يبدو انني خذلت توقعاته خصوصاً بعد ان اتجهت بشارع جانبي حرمه من مواصلة (التلفت) بينما انقذني انا من تلك الاعين التى كانت تطاردني بإصرار غريب وبحيرة شديدة.
المهم، توقفت امام شارع الاسفلت الذى يفصل مابين تلك الرقعة الجغرافية التى تقع فيها العيادة ومابين وجهتي المقبلة، وقبل ان اخطو لداخل الاسفلت مرت بجواري عربة مسرعة كادت ان تطيح بجسدي، ليتوقف سائقها قبل ان يهبط من السيارة وهو يسب ويلعن، وقبل ان يصل الي استوقفته امرأة في آواخر الستينات، وهمست في اذنه ببعض الكلمات، ليعاود ذلك الشخص (الشراني) النظر اليه بريبة قبل ان يغادر المكان وهو يقول بصوت عال: (ياخي حتى لو مجنون ماصاح يقطع الشارع بالطريقة دي).!..في النهاية عرفت طبعاً ان تلك المرأة كانت تتابعني منذ خروجي من تلك العيادة وتظن-جزاها الله خيراً-انني (مجنون) احتاج للمساعدة وتفسير حالتي تلك لكل من (هب ودبّ).!
جدعة:
لماذا نتعامل كسودانيين مع الطب النفسي بتلك الطريقة الخاطئة.؟..ولماذا لايسعي الاطباء النفسيين انفسهم الى احداث توعية اكبر بإيجابيات تخصصهم..؟..بل لماذا ننظر الى اي شخص يرتاد عيادة طب نفسي على انه (مجنون)..؟..على الاقل يكفي ان ندرك ان (المجنون الحقيقي) قليلاً مايمتلك الوعي ليدخل تلك العيادات وفق قناعات مسبقة بضرورة العلاج…ولا (كيف)..؟
شربكة أخيرة:
(المجانين) اليوم-وللعجب- لاينتشرون داخل عيادات الطب النفسي…المجانين اليوم ينتشرون في شوارع و(صواني) ولايات الخرطوم…وتلك صورة (مجنونة) تحتاج لـ(جلسات) مع (الضمير) في المقام الاول.!