منى عبد الفتاح : العلاقات السودانية الهندية بين القِيم والتقاليد
لم تنطوِ زيارة الرئيس السوداني، عمر البشير، إلى الهند، للمشاركة في القمة الهندية الأفريقية الثالثة، أواخر أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، على تحديه المعتاد المحكمة الجنائية الدولية فحسب، وإنّما على إدانة وقعت على الهند من حيث لا تدري. ذلك كان إثارة عاصفة من الانتقاد الموجّه إلى الهند باعتبارها من أكبر الديمقراطيات في العالم، بذهابها إلى أبعد مما تفرضه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهي تقديم كرسي الحياة الأبدية هدية للرئيس البشير.
قد لا ينتبه كثيرون إلى التواصل الشعبي بين البلدين، وعلى المستوى الرسمي، بدأ الاهتمام بالتعاون الآسيوي الأفريقي منذ زمن بعيد، وتم تقنينه على مستوى الدولة الحديثة منذ مؤتمر باندونغ (في إندونيسيا) لدول عدم الانحياز عام 1955، حيث اجتمعت فيه 29 دولة من قارتي آسيا وإفريقيا للبحث وتأسيس سبل التضامن والتعاون بينها.
أما القمة الهندية الأفريقية فقد سبقتها قمتان، الأولى في نيودلهي عام 2008، وجاءت تقليداً لقمة بكين في عام 2006، والتي ضمت زعماء 48 دولة أفريقية. وقد شهدت تلك القمة اجتماع 14 دولة لمناقشة تضخم أسعار الغذاء، واحتياجات الطاقة، وما إلى ذلك. وكانت الثانية في أديس أبابا في مايو/أيار 2011. وفيها أعلنت الهند عن تقديم خمسة مليارات دولار في هيئة قروض للمساعدة في تحقيق أهداف التنمية في أفريقيا، وتوفير 700 مليون دولار لإنشاء مؤسسات وبرامج تدريبية جديدة، بالتشاور مع الاتحاد الأفريقي ومؤسساته، في محاولة للانخراط على المستويات الثنائية ومتعددة الأطراف في أفريقيا، وتعزيز الشراكات مع الاتحاد الأفريقي والتجمعات الاقتصادية الإقليمية.
تتحرك الهند نحو الاستثمار في أفريقيا عموماً، وفي السودان، ثم في جنوب السودان بعد الانفصال، من دون التأثير على سياسات القارة الأفريقية. أمّا في السودان بشكلٍ خاص فكان دور شركة النفط والغاز الطبيعي الهندية (OVL) معقداً، باعتبارها مملوكة لحكومة بلادها، وتتمتع بدعم غير محدود، ساهم في أن يمتلك مع الشركة الوطنية الصينية مفاتيح لعبة صناعة النفط في السودان. ونجحت الشركتان في أن تحلا محل الولايات المتحدة الأميركية وشركات النفط الأوروبية في هذه العملية.
كان دخول الهند والصين إلى الاستثمار النفطي في السودان بناءً على أحداث تمت في عام
“من الأفكار التي أشار إليها غاندي، وفي مقدور الهند تقديمها إلى إفريقيا، ومنها السودان، هي دروس في الديمقراطية والمعرفة العلمية” 1984، تعرّض لها الكاتب لوك باتاي في كتابه (ملوك النفط الجدد.. الصين والهند والصراع العالمي على نفط السودان وجنوب السودان). والأحداث هي مهاجمة مجموعة من متمردي جنوب السودان في ولاية الوحدة معسكر قاعدة (ربكونا) التي أنشأتها الولايات المتحدة وشركة الطاقة متعددة الجنسيات، وفي مقدمتها شيفرون في 1970. وبعد تعرض مقار الشركة وموظفيها ومستخدميها لهذه الهجمات التي أدت إلى مقتل بعضهم، وجرح آخرين وخطفهم، قررت شركات النفط الأميركية تصفية نشاطاتها هناك، وانسحبت من السودان بعد 20 عاماً ومليار دولار من الاستثمارات، نتيجة التهديد المستمر من انعدام الأمن والتعطيل.
المتابع للاهتمام الهندي بالتنقيب عن النفط، والبحث في سياسات الدولة النفطية وغير النفطية، وبافتقار الهند مصادر طاقة محلية أو وطنية، يجد أنها بحثت عنها بشكل حثيث خارج الحدود. وعمل الدعم الذي تقدمه حكومة نيودلهي لأسعار المحروقات المتبعة منذ عهد بعيد، ما يفرض عليها استثمارات تعود عليها بدخل كافٍ لاستمرار سياستها، على التركيز على السوق الأفريقية عموماً، والسودانية خصوصاً، وهي التي أهملها الغرب بعدما ركز نشاطاته الاستثمارية في أوروبا الشرقية وروسيا والولايات المتحدة، بعد هزيمة المعسكر الشيوعي في تسعينيات القرن الماضي.
لا يقتصر التعاون الهندي على النفط، وإنّما تُعتبر الهند ثاني أكبر الدول المصدرة للسودان بعد الصين. وارتفع حجم التجارة بين الهند والسودان من 327 مليون دولار عام 2005 – 2006 إلى 1.4 مليار دولار عام 2014 – 2015، وفقاً لوزارة الخارجية الهندية.
لا يجيء الحديث عن العلاقات السودانية الآسيوية حتى تكون الصين في المقدمة، تليها الهند، فهي في وضع منافسة أقلّ من الصين التي دخلت في علاقات تعاون وشراكة. كان صوت الهند خافتاً، بسبب الحجم الهائل لاستثمارات المؤسسات المملوكة للحكومة الصينية في البنية الأساسية. ولكن، أبقت الدولتان على استراتيجية تنافسهما الناعم على أفريقيا، فكل منهما تسعى إلى التمدد في القارة. كما أنّ كلاً منهما تتذبذب بين تيارات القوة الناعمة والعلاقات التاريخية، أو الاهتمام باستخراج الموارد الطبيعية والاستثمار المالي والاهتمام بالمصالح التجارية.
كان للماهاتما غاندي رأيٌّ آخر، هو: “إنّ التجارة بين الهند وأفريقيا ستكون تجارة أفكار وخدمات، لا تجارة بضائع مصنعة ومواد خام، كما فعل المفسدون الغربيون”، فالهند كحضارة قديمة استفادت من تعددها الإثني والثقافي والديني، وبعد خروج المستعمر البريطاني أسّست لحكم ديمقراطي، ليكون ضامناً للنهوض بالدولة، ومصدراً للوحدة الوطنية.
ومن الأفكار التي أشار إليها غاندي، وفي مقدور الهند تقديمها إلى إفريقيا، ومنها السودان، هي دروس في الديمقراطية والمعرفة العلمية. ولكن، بدلاً عن ذلك، اختارت الهند تشجيع نظام غير ديمقراطي، بطول سلامة. فلو لم يتطلب مثل هذا التعايش بين نظامين، ديمقراطي وديكتاتوري، التجاهل للعادات والتقاليد المتبعة، مثل الإهداء الرمزي المعبّر بأن يجثم ديكتاتور على صدر مواطنيه، أبد الدهر، فإنّه بلا شك يتطلب مراعاة واعية للقيم الديمقراطية التي تحملها الهند بين جوانح دولتها الموحدة.