منى عبد الفتاح : نموذج الدولة العربية بين الصمود والانهيار
يوشك نموذج الدولة في الوطن العربي على الانهيار بعد أن بدأت منظومة بعض من هذه الدول في التفكّك، ما يضع الوجود لهذا الكيان السياسي والإستراتيجي- إن لم يتم تداركه- في مهبّ عواصف عديدة ليست على شكل نهاية التاريخ وفقاً لفرانسيس فوكوياما، وإنّما على نموذج تشريح التاريخ وتحليل الحاضر لإنقاذ ما سوف تكون عليه في المستقبل.
صحيح أنّ تبعات التغيرات التي صاحبت ثورات الربيع العربي منذ عام 2010م، بدأت تتضح الآن بشكلٍ كبير، ولكن واضحٌ أيضاً أنّ هناك دوافع ظرفية متزامنة أكدّت على حدوث هذه المتغيرات المعقّدة.
وبالرغم من أنّ عقدي السبعينيات والثمانينيات قد شهدا صرخة أجيال اليوم الذين عانوا مرارات الاغتراب والتهميش، إلّا أنّ المنتمين منهم لتيارات سياسية وأيديولوجية وغير المنتمين قد توحدوا على فكرة سواء. هذه الفكرة هي الإيمان بحراك تتمظهر فيه أفكارهم محاولة إيجاد إجابات على الأسئلة الكبرى التي طالما عزف الأوصياء على المجتمع باسم السلطة عن الإجابة عليها.
ما زالت الهواجس تقضُّ مضاجع الحالمين بثبات الدولة العربية الحديثة وتصيب آمالهم في مقتل. لقد كانت المخاوف القديمة والتي ارتبطت بمظاهر التسلط والاستبداد في أغلب الدول العربية وعلى مرّ تاريخها الحديث هي من أهواء النزق السياسي الذي يبيح الاستقواء على الآخر بغرض الخلود في السلطة. أما وقد جاءت ثورات الربيع العربي وهي تحمل آمالاً عراضاً فقد استبشر بمقدمها مواطنو هذه البلدان ولم يبق غير الصمود في سبيل ألّا تتحول هذه الآمال إلى آلام قد تأخذ في طريقها فرص التغيير الحقيقي على مستوى الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وليس بالضرورة أن يكون التفتت الذي ينهش عضد الدولة نتاجاً مباشراً عن السنوات الأخيرة لأنّ هناك نموذجين مثل العراق والسودان لم يشهدا ربيعاً ولكن شهدا حالتي تفكك أتاحتا مجالاً لقياس احتمالات تطور التفاعل بين هذه الديناميات. فهناك نزعات انفصالية منها ما اكتمل مثل انفصال جنوب السودان في يناير 2011م ، وبعضها شبه منفصل مثل كردستان العراق، وآخر غير منفصل لكنه خارج حدود السلطة السياسية مثل أكراد سوريا. ثم هناك ما يحدث من استمرار الدولة المركزية في تغذية محفزات الانقسام على أساس إثني وجهوي مثلما يحدث في بعض الدول العربية. فخروج المكونات من تحت حطام الثورات مطالبة بالعدالة في التنمية الاقتصادية والسياسية يضع في الاعتبار أملاً في التغيير إذا ما تمّ تداركها بتحقيق ما جاءت به أهداف الثورة.
ورحلة مخاض التغيير هذه تستوجب الانتباه إلى عوامل قد تنقل الدولة من هزّة إلى حالة تصدع جيوسياسي ثم إلى مرحلة تفتيت الدولة الوطنية. وهذه التوقعات لا تأتي من العدم لأنّ كيان الدولة العربية وإن توحدت سياسياً داخل حدودها الجغرافية فإنّها تمور على أرضها العديد من الصراعات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي هيأت بيئة خصبة لتفتت وتصدّع هذا الكيان.
وهذا النموذج للدولة المتصدعة أظهر خطل العبارة التي تفترض أنّ العالم العربي تسير دوله في اتجاه القبول بالآخر. فبالرغم من ازدياد خط التعددية الثقافية داخل كل دولة، فإنّ تجلي هوية معينة يعمل بطريقة مباشرة على تنبيه يُشعر السلطة بالخطر والتحسب من مطلوباتها ومعطياتها التي يتم كبحها حتى لا تسير في خط الصعود، وتتوالد تبعاً لذلك هويات أخرى تبتلع المركز السلطوي.
ولا غرو إن تحولت البنية الهيكلية للدولة في الوطن العربي إلى مجرد كيان “أقليات” تتصارع في نزاعات إثنية وجهوية بعد أن فقدت المجتمعات العربية مظلتها القومية والوطنية. تزيد معاناة دول الربيع العربي نتيجة لآلام التغيير الناتج عن الثورة، وازدياد فظاعة الوضع في سوريا والعراق؛ من الإيمان بأنّ تحطيم صنمية الدولة المركزية يستدعي النظر في إعادة تشكيل خريطة عربية جديدة. هذه الخارطة يقع عليها عبء عدم التواني عن خلق خطوط دفاع هي الرجاء المتبقي للتحول الذي يؤمل أن تأتي به أيامٌ حبلى قادمات.