رأي القدس : التعذيب والغضب يستطيعان إسقاط نظام السيسي
كان أسبوعا كارثيا بأي مقياس. وكأن ثمة اتفاقا إجراميا جرى تنفيذه من أقصى الجنوب في مدينة الأقصر إلى الإسماعيلية في الشمال، مرورا بالقليبوبية والسادس من اكتوبر. أما المحصلة فوفاة ثلاثة مواطنين مصريين داخل أقسام الشرطة تحت شبهة التعذيب، في تذكير بعهد ظن كثيرون أنه ولى إلى غير رجعة بعد خمس سنوات من الموجات الثورية وآلاف الضحايا وتبديل نظام بعد نظام ورئيس بعد رئيس. لكن الحقيقة المرة أطلت بوجهها القبيح مرة أخرى، و«كأنك يا أبو زيد ما غزيت» كما يقول المثل الشعبي المصري.
أما الحكومة، ممثلة برئيسها المهندس شريف إسماعيل، فجاءت تصريحاته «باردة ولا سياسية»، مكتفيا بالتعهد بـ«محاسبة المخطئين»، وكأن المواطنين الثلاثة قتلوا «خطأ» في حادث سير، وليس عمدا وبأبشع الوسائل وأكثرها إجراما.
وزارة الداخلية اكتفت بتصريحات مشابهة على لسان المتحدث باسمها، وليس الوزير شخصيا. وكأن تحول وظيفة الوزارة من حماية الناس إلى قتلهم أمر لا يستاهل أن يخرج الوزير شخصيا معتذرا عنه للشعب ولأهالي الضحايا.
أما الرئيس عبد الفتاح السيسي فلم يقدر الأبعاد السياسية لمثل هذه الجرائم، ومعناها في وعي المصريين، حتى بعد أن نبهه كتاب إلى أنها تذكر بجريمة قتل الشاب خالد سعيد، والتي كانت من الأسباب المباشرة في تفجير ثورة يناير/كانون الثاني.
بعض المثقفين والسياسيين وجدوا من «الملائم لمصالحهم» مع النظام أن يستخدموا المصطلحات الحكومية في توصيف تلك الجرائم مثل «أخطاء الشرطة، والضباط المخطئين»(..)، وكأنهم متهمون بكسر إشارة مرور لا القتل، وقصروا القضية على الحاجة إلى إعادة تدريب الضباط والإصلاح الإداري للوزارة، دون الحديث عن المسؤولية السياسية التي تقع بالكامل على رئيس الجمهورية الذي لم يتخذ أبدا القرارالسياسي الحتمي بإصلاح وزارة الداخلية وإعادة هيكلتها، لتتجاوز تقاليد عهد الطوارئ وانتهاكات حقوق الإنسان التي لم تعرف سواها طوال ثلاثة عقود، معتقدا أن الحفاظ على ذلك التراث مطلوب لكسب الحرب ضد الإرهاب.
وأما حديث الرئيس السيسي عن ضرورة احترام الشرطة لحقوق الإنسان، فإنه في الحقيقة لا يختلف كثيرا عن حديثه عن إصلاح الإعلام والتوصل إلى ميثاق شرف إعلامي. كلاهما تصريحات موجهة إلى الخارج، وليس إلى المعنيين بالأمر، وللسبب نفسه يظن أنه مستفيد من بقاء الأوضاع دون تغيير.
لكن الواقع يختلف كثيرا عما يتمناه النظام إذ أن الغضب الشعبي التلقائي الذي تفجر في مدينة الأقصر إثر مقتل المواطن طلعت شبيب تحت التعذيب، والذي عتمت عليه وسائل الإعلام الحكومية، يمثل تهديدا حقيقيا ونادرا للنظام.
بل إنه يقدم نموذجا لنوع الاحتجاجات الشعبية التلقائية وغير المسيسة التي لا يستطيع النظام بكافة مؤسساته، بما فيها العسكرية، مواجهتها، أو اتهامها بأنها «تنفذ أجندة أجنبية» أو تساند «جماعة إرهابية»، حيث أن شبيب، وكذلك الضحيتين الأخريين، ليسوا مشهورين أو معارضين سياسيين، ولا ينتمون إلى أي جماعة أو حزب. بل إنهم أشخاص عاديون. ومهما كانت الجرائم التي اتهموا بارتكابها، فإنها لا يمكن أن تبررجرائم الشرطة بحقهم. ولعل هذا يبرر بركان الانتقادات الذي انفجر ضد الداخلية حتى من مؤيدي النظام.
ويبدو أن النظام يراهن على أن المصريين تعبوا، وأنهم لا يريدون ثورة جديدة، بعد ما عانوه من فوضى أمنية وكساد اقتصادي خلال السنوات الماضية، وربما يكون هذا صحيحا إلى حد كبير، إلا أن مظاهرة الأقصر جاءت لتثبت أنه ربما يحتاج إلى إعادة نظر. إذ أن أهالي الأقصر الذين يعتمدون على السياحة بشكل كامل لكسب قوتهم، يعانون من كارثة حقيقية بسبب غياب السياح منذ العام 2011، لكن هذا لم يمنعهم من الخروج متعهدين الثأر مهما كان الثمن. ويدرك جيدا من يعرف مصر، أن تقاليدهم العتيقة تجعلهم لا يتركون ثأرهم وإن طال الزمن.
وأخيرا فإن النظام يقف أمام خيارين واضحين، إما أن يسارع إلى اتخاذ القرار السياسي بالإصلاح المؤسسي للشرطة الذي لا يجعل الضابط مضطرا لتعذيب المتهم للحصول على اعترافه أو تلفيق اتهام له، (لأنه لن يحصل على ترقيته إلا بإنجاز عدد محدد من القضايا الناجحة سنويا)، ولايجعل التعاطف الواجب والمستحق مع الشرطة وشهدائها في مواجهة الإرهاب غطاء لإعادة الزمن للوراء بارتكاب جرائم التعذيب ضد المواطنين. وأما أن يكتفي بسياسة «العناد» التي اعتمدها الرئيس المخلوع حسني مبارك، ودفع ثمنها نهاية مأساوية جاءت أسرع مما توقع الجميع.
رأي القدس