منى عبد الفتاح : في التسامح حياة
في هروبه المستمر من الالتزامات القيمية يميل الإنسان إلى التجريد والعيش في الأوهام وأحلام اليقظة.
ولا يزال الإنسان يتحرى ويتشبث بهذه القيم المثالية مما يعرضه لكثير من الهزائم، بينما يتوانى عن ممارسة قيمة هي من صميم التعاملات الإنسانية التي لا تتطلب مدينة فاضلة لتمارس عليها.
ومن المفاهيم المتاحة التي يصعب تحقيقها مفهوم التسامح الذي يمثل أحد المفاهيم التي تحاول إيجاد موقع على خارطة الإنسانية لتضفي سلاما على هذا العالم المتناحر.
والتسامح كغيره من المفاهيم تعرض من قِبل كثير من الأيديولوجيات إلى عمليات شد وجذب حتى وصل إلى اعتباره إحدى المسائل الجوهرية التي تشكل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للشعوب.
وأكثر ظواهر الشد والجذب هي تلك التي نشأت بسبب التراكم المعرفي الذي ابتدأ معناه مع الحياة.
لم يخرج تعريف التسامح في كل السياقات الاجتماعية والفكرية عن أنه «الموقف الذي يقضي بالاعتراف للآخر بحق التصرف والتفكير بشكل مختلف».
وإذا سما فهو يفسر القبول السلبي لفعل أو قول معين، ومدى المقدرة على استخدام ردود فعل رافضة، خاصة إذا بلغ الاستعداد لقبول وجهات النظر المختلفة حدا يفرق بين القبول والرفض، وبهذا التوليف يتساوى الآخر بالذات.
وإذا انحط فهو يغيب في النظرية والممارسة، مما يؤدي إلى ظاهرة التعصب، وتهميش الآخر، وسيادة عقلية التكفير والتحريم، واستشراء سلوك يقود إلى التطرف والعنف.
تجلى مفهوم التسامح في التاريخ الغربي في القرن الـ16 الميلادي وارتبط بالمسألة الدينية، حيث إن النخب الغربية تمكنت من تجاوز مرحلة الحروب الدينية بترسيخ مفهوم التسامح، كما نجده واضحا في المنظومة الفلسفية، حيث اعتبر الفيلسوف جون لوك أن «التسامح هو الحل العقلاني لظاهرة الصراعات والحروب الدينية التي سادت بين أبناء الطوائف المسيحية في المجتمع الغربي آنذاك».
أما الفيلسوف الفرنسي فولتير فقد قال كلمته المشهورة التي صارت حكمة تتوج بها النصوص حين يراد الحديث عن الإعلاء من شأن الحرية والتسامح وقبول الآخر على مبدأ الاختلاف ونبذ إقصاء الآخر وتهميشه، والاعتراف بحق قبول الآخر «إنني لا أوافقك على ما تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله».
وبقدر ما يتجلى هذا المفهوم في الثقافة الغربية برده إلى القيم الإنسانية الشاملة كفطرة وطبيعة بشرية، فهو يغيب بشكل واضح في الثقافة العربية.
والمنطقة العربية جديرة بهذه القيمة من منطلق أنها مهبط الديانات التي نزلت داعية إلى هذه القيمة، فالأصل في الأديان أنها تدعو إلى التسامح والغفران، كغاية في حد ذاتها وكوسيلة للدعوة إلى الله.
وهذا ما يفسر مقابلة التسامح للخطيئة في كل الديانات السماوية ختاما برسالة الإسلام السامية.
أما الخلل الواضح بتباعد المسلمين حاليا عن هذه القيمة، فهو ليس من الدين بشيء، وإنما لأسباب أخرى بدأت بالتعصب القبلي، ولم تنته بالتعصب الفكري.
ففي ظل تربة كهذه لم يأخذ المفهوم حقه من الطرح أو الممارسة، لأنه اختلطت به ممارسات تفتقر إلى الاعتراف بالآخر، وهو وتر ما زالت تعزف عليه التيارات السياسية والدينية على حد سواء.
أما اجتماعيا فالتسامح يعني في أبسط صوره الرضا بواقع التعدد القبلي والإثني، وإن كان لم يرتق بعد إلى صورة الإقرار.
أما سياسيا فتعتبره الحكومات العربية عفوا تصدره على من اختلفت سحناتهم أو أفكارهم وتوجهاتهم فتنعم عليهم بقبولهم كهامش ذي دور تكميلي، وبهذا يظهر المفهوم بتناقضاته في الثقافة العربية، حيث يرفض الناس بعضهم بعضا، وفي حالات أخرى تجدهم يمتلئون بقيم التعدد والاختلاف، ويعبرون في شعارات براقة بانسجامهم، ولن يزول هذا التناقض حتى يتم كسر قيود التمركز حول الذات المتعالية.