عطر الذكرى
قبل اسابيع انتقل الى رحمة مولاه احد شباب الناشطين في العمل الانساني يدعى عمار ضرار، فضجت الاسافير بالدعاء له والثناء عليه وتثمين مجهوداته في العمل الخيري، كما قام الشباب بحملات مبتكرة للتصدق على روحه، ومنها حملة للتبرع بالدم ووهب اجرها لروح الفقيد الطاهرة والمغفور لها باذن الله ..
للحقيقة لم اتشرف يوما بمعرفة عمار في رحلة حياته القصيرة، ولكن استوقفني نعي مؤثر سطرته في حقه صديقتي سناء حسين زوجة الموسيقي والدرامي المبدع محمود السراج .. سناء ايضا لم تتشرف بمقابلته ولكنها عرفته سماعا عبر علاقة الصداقة الحميمة التي جمعته بزوجها .. نعي سناء مس قلبي ولفتني لقيمة انسانية عظيمة، فمن ضمن ما سطرته في حق الراحل حكت عن ما عرف عنه من حب الاطفال والاهتمام بهم .. وكيف ان المرحوم كان يحرص كلما التقى بزوجها ان يرسل معه هدية لابنته الصغيرة عبارة عن لوح من الشوكولاتة التي يعلم انها تحبها ..
حسنا احبتي .. تلك اللفتة الصغيرة الجميلة بأن يحفظ ما تحب ابنة صديقه ويحرص على اهدائه لها والمواظبة على هذا الفعل دون كلل او ملل يعكس جمال روح الفقيد وتميزه .. وللحقيقة فتلك الافعال الصغيرة في قيمتها الكبيرة في معناها هي التي تشكل الفرق في معدن البعض الذين ينحتون في وجدان الناس ذكرى تدوم بعد رحيلهم، وتؤكد ان التميز ليس بالشيء السهل ..
ليس بالسهل ان تكون ذا قلب كبير يسع الناس ويحفظ لكل اهل مودتك تفاصيلهم الحميمة .. تعرف ما يحبون وتسعى لاسعادهم بلمحات ولمسات تعبر عن اعتنائك واهتمامك بهم .. نحن ننسى ونسهو وتشغلنا الشواغل حتى عن التعبير عن المودة التي نحملها لاحبتنا، لذلك نجد ان شراء محبة الناس والسكنى في قلوبهم ليس بالشيء السهل المتاح لغير اصحاب التميز ..
قديما قال الشاعر يشرح لماذا من الصعب ان تكون متميزا ما لم تكن تحمل مواصفات هذا التميز .. يقول عن من يطلب ان يكون سيدا على الناس:
لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يفقر والاقدام قتال
اذن حتى السيادة كغيرها من صفات التميز لا تعطى لم يمسك جوده خوف الفقر ولا من يخاف حومات الوغى حذر الموت ..
في نفس سياق الوقوف على اطلال احباء جميلين رحلوا في صمت تاركين خلفهم اريج سيرة عطرة .. نقول في امثالنا البليغة (لاقيني ولا تغديني) ونعلم ان من اثقل ما يثقل النفس البشرية الحسيسة، ان تكون عبئا على غيرك حتى ولو كان عبء استضافة، فـ مليون في المية من شعور الضيف بالراحة وانشراح الصدر يأتي نتيجة ما ترسله صاحبة البيت من اشارات الترحاب والفرح وعدم شيل الهم من ثقل استضافتك .. قد يبذل لك صاحب الدار طيب المقام والطعام والمكان ولكن زفرة ضيق او كلمة تزمر او حتى لمحة (صرة وش) من صاحبة الدار تدخلك في ضفور الحرج وتجعلك تتمنى (لو ما جيت) .. من ذلك المعنى كانت ذكرى (ماما عواطف) في قلبي وفي قلب كل من وسعه بيتها الكريم ووجهها البشوش المرحاب في غير تكلف ..
نزلنا عندها في القاهرة – شقيقتي وأنا – اول وصولنا لمصر في سنة دراستي الاولى ونحن نحمل احزان فراق الاهل والبرلمة وضهابة الغرباء وخطاب من شقيقتها حبيبتنا وجارتنا في الحي .. استقبلتنا بحميمية وحضن الأم وهي لا تعرف عنا شيئا سوى اننا من طرف الحبايب .. سبحان الله بقينا في ضيافتها حوالي العشرة ايام نحتت في الوجدان .. يشهد الله .. طوال سنين عمري وما عشته فيها ضيفة أو مضيوفة .. لم ارى مثل اريحية وكرم وبشاشة (ماما عواطف) .. شقتها ذات الغرفتين والصالة الصغيرة لم تبت فيها يوما وحيدة مع عيالها .. رزق زوجها المحدود الذي يعمل معلما في الارياف ويعود لهم مرة في الشهر لم ينقص من صينية طعامها الحافلة بالمطايب ..
تقف ليلها ونهارها لساعات في مطبخها تعد الطعام .. لم يبدر منها يوما ما يشي بضيق او حرج او اجهاد .. ضاحكة موانسة مراعية قشاشة دموع .. كانت مهتمة لادق تفاصيل سعينا لتجهيزات انتقالنا للاسكندرية .. لم تبخل براي او مشورة ثم فارقناها ولم تفارق منا القلوب وظلت بيننا مودة وعشرة وتزاور ثم شغلتنا شواغل الدنيا حتى سمعت خبر وفاتها فاجتمع الماضي والحاضر على حزن قلبي لاسطر في حقها كلمات .. حقا يرحل الطيبون ويتركون خلفهم ذكرى واريج عطر .. تقبلهم الله