منى عبد الفتاح : بوتين على المسرح التركي
على الرغم من حروب عديدة خاضتها روسيا وتركيا، منذ القرن السابع عشر (1676)، إلّا أنّ ما آلف بين البلدين، عقب فترة الحرب الباردة، كان الوقوف في وجه الهيمنة الأميركية المتصاعدة آنذاك. ولهذا السبب، تغاضت تركيا عن ممارسات الدب الروسي التاريخية، ومنها دعمه العسكري، واعترافه الشرعي بتأسيس إسرائيل، والذي كان سابقاً لدعم الولايات المتحدة لها.
لم يضع هذا الموقف التاريخي الاتحاد السوفييتي في موقف العدو بالنسبة للعالم الإسلامي، بأكثر مما كان عليه، نسبة لتوجهه الإيديولوجي المناقض، لكنه ساهم في لفت الانتباه إلى أنّ الاتحاد السوفييتي يقف عند الطرف المناقض تماماً لدول المنطقة الإسلامية العربية.
من هذه الدول، شذّت سورية، ومن بعدها مصر، باستعانتهما بالاتحاد السوفييتي في نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، طلباً للسلاح. ولم يمنع تأييد الاتحاد السوفييتي قيام دولة الكيان الصهيوني، أيّاً من مصر وسورية من إقامة روابط التعاون والتضامن معه، حتى في ردهات الأمم المتحدة. ولم يكن ذلك لخلو العالم من قوة أخرى، قد تخلق توازناً لهذه الدول الباحثة عن حليف قوي، فقد كانت الولايات المتحدة خياراً بديلاً، خصوصاً بتدخلها في 1956، وعملها على تأمين انسحاب القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية من مصر.
التقارب المؤقت بين تركيا وروسيا حكمته الظروف الدولية، فعلى الرغم من عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنّ مجافاة الاتحاد الاوروبي لها جعلها تبحث عن حليف إقليمي، متضرر أيضاً من المجافاة نفسها، ويمكن أن يصنعا معاً قوة إقليمية، لكن روسيا انغرست بعيداً باتجاه إيران، على الرغم من الاختلاف الإيديولوجي بينهما، وبعد مقاطعةٍ دامت بين الدولتين زهاء أربعين عاماً. وهو موقف يقوم على التقليدية في صناعة التحالفات، خصوصاً بعدم تأثّر روسيا بالخلاف المذهبي العام بين أغلب الدول العربية السنيّة وإيران الشيعية من جهة، والخاص بين إيران وتركيا من جهة أخرى. كما أنّه لا يخفى عليها ما بين تركيا وإيران من طموح غير مسبوق في إيجاد قوة إقليمية إسلامية، وتنافس حاد واستخدام غير مسبوق لآلية الاستقطاب بالقوة الناعمة. ذلك ما يمكن ترجمته بأنّه يتأسس على خلفية “عدو عدويّ … صديقي”، لا سيما أنّ هذا العدو أصبح شريكاً اقتصادياً لروسيا وعسكرياً في مجال الطاقة النووية.
ذهب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أكثر من هذه الشراكة، باندفاعه إلى نقد العقوبات
“بعد أن تهدأ عاصفة المقاطعة الاقتصادية، قد تستثمر روسيا الورقتين الكردية والأرمنية في الضغط على تركيا” المفروضة على إيران، والمتمثلة في الحظر التجاري الأميركي منذ 1979، بعد احتجازها رهائن أميركيين. ثمّ تفاقمها، بعد قرارات الأمم المتحدة، لزيادة الضغط عليها إبّان برنامجها النووي، فقد وقف بوتين في العاشر من يوليو/تموز الماضي في مؤتمر صحافي، عقده في ختام أعمال قمة منظمة شنغهاي، مطالباً برفع كل العقوبات عن إيران، ومؤكداً أنّ العقوبات ليست أسلوباً لحلّ المشكلات الدولية، ويجب إلغاؤها من الأساليب الاقتصادية العالمية، لأنّ هذا يقلب النظام الاقتصادي العالمي رأساً على عقب.
وليست تركيا الأولى التي تتعرض لفرض قيودٍ على صادراتها الزراعية إلى روسيا، وإنّما تأتي هذه الإجراءات في سياق التوتر السائد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة، وبينه وروسيا من جهة أخرى، بفرض قيود على الواردات الزراعية من الدول، بعد فرض عقوبات على روسيا بشأن الأزمة في أوكرانيا.
ومنذ تشديد العقوبات الغربية على موسكو، على خلفية الأزمة الأوكرانية، تفرض السلطات الروسية، بشكل شبه يومي، حظراً جديداً على منتجات مستوردة من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. وغالباً ما تُتهم روسيا باستخدام السلاح التجاري، باتخاذها الأسباب الصحية وحماية المستهلك ذريعة، ووسيلة ضغط دبلوماسية على جيرانها.
يكمن رأي دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي لم يُعِرْها بوتين اهتماماً، حتى وصلت إلى درجة ورودها في تقرير الدفاع البريطاني لعام 2015، في أنّ روسيا تشكّل أكبر تهديد للسلام العالمي، بعد تنظيم داعش. ولا تزال القوى الغربية وتركيا في اختلاف كبير مع روسيا، بشأن مصير نظام بشار الأسد، بينما تصنّف روسيا كل معارضي نظام الأسد بالإرهابيين.
لا تستطيع روسيا التمادي في فرض عقوباتٍ على تركيا، خوفاً من ردة الفعل التركية، والمتماسكة إلى الآن، لأنّه في وسعها مبادلة المقاطعة بمقاطعة مماثلة، ومبدئياً هي قطع علاقات الطاقة مع روسيا، ومنع دخول الشاحنات والحاويات القادمة من روسيا باتجاه البوابات الحدودية والموانئ التركية، كما سيشمل ذلك جميع الواردات الروسية، بما فيها الواردات القادمة من دول أخرى عبر روسيا.
لا شكّ في أنّ وقف عدد كبير من الاتفاقيات، وانقطاع العلاقة بين البلدين ستحيق بروسيا خسارة اقتصادية كبيرة، قد تتحول، على المدى الطويل، إلى أحادية الجانب، في ضوء البدائل الخليجية المتوفرة لتركيا. والذي يجعل هذه البدائل تتيح حلّاً متكاملاً في الوقت الراهن، هو توحّد الرؤية المشتركة بين تركيا وقطر والسعودية في الموقف من الحرب السورية.
وما يضاعف الخسارة على روسيا أنّ بوتين بدأ، بالفعل، في ذرّ الرماد في العيون، باختلاق قصص وشائعات، أقرب إلى قصص جلسات الندامى، وهي نشر صورة لأردوغان مع رجلين ملتحيين، هما عاملا مطعم من عموم الشعب التركي. تبدو محاولة الإعلام المقرّب من بوتين بائسة جداً، في استخدام هذا النوع من الإثارة، وحبك قصة حول صورة في بلد غالبية أهله من المسلمين، فإشارة النظام الروسي، هنا، ليست إلى علاقة مزعومة فقط مع داعش، وإنّما محاولة للاستفادة من حالة الاحتقان الغربي، بعد حادثة باريس، ضد كل ما ينتمي إلى الإسلام، خصوصاً في شكله المظهري، سواء أكان باللحى أو الحجاب.
على الجهة الأخرى من هذه الأزمة، وبعد أن تهدأ عاصفة المقاطعة الاقتصادية، قد تستثمر روسيا الورقتين الكردية والأرمنية في الضغط على تركيا. فبينما تصنّف تركيا حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً محظوراً، نجد أنّ موسكو تدعم هذه المليشيات الكردية. أما الورقة الأرمنية، فهي مواصلة لدعم أنقرة للأذريين في مواجهة الأرمن الذين تدعمهم موسكو، كما حدث في أزمة (ناغورني كارباغ).
على الرغم من تهوّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فإنّه يُستبعد تصعيد الأمور إلى أكثر من هذا الحد الذي قد تأخذ تداعياته أبعاداً أخرى، نظراً لاعتماد البلدين على بعضهما بعضاً. أما التعاطي مع الأزمة خارج نطاق الدولتين، فقد كان مبنياً على أسلوب بوتين المعروف بإيجاد مناطق توتر جديدة، عندما يتم التضييق عليه، وهنا إيجاده مسرحاً جديداً بعيداً عن الأراضي السورية.
عندما يخرج البلدان من هذه الأزمة، سيكون بوتين قد تعلّم درساً، هو أنّ مواجهة تركيا تعني دخول “الناتو” في المواجهة، وسيكون مهدّداً باشتعال حرب أخرى بين دول الحلف، بما فيها تركيا وبين بلده. ولكن، ما أحوج بوتين إلى قواته التي يتبختر بها مناصراً الأسد.