حيدر ابراهيم علي : الفكر والمال وقضايا أخرى
عقدت مؤسسة الفكر العربي مؤتمر « فكر14» تحت عنوان:»التكامل العربيّ- تحدّيات وآفاق». وكان للمكان دلالته، فقد عُقد في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، كاحتفاء ببلوغ الجامعة عامها السبعين. وشهد اللقاء حشدا ضخما من المثقفين والخبراء العرب بلغ حوالي150 شخصا، ولذلك لجأت اللجنة المنظمة إلى تقسيم المشاركين إلى مجموعات عمل بلغت53مجموعة. وكان مسار الحوار غريبا، فقد قلصّت مجموعات العمل الأسئلة الـ 43 التي كانت محور النقاش إلى 10 أسئلة، عن أن يتم انتخاب خمسة منها لرفعها لمؤسسة الفكر العربي! ولم يحدث أيّ تفاعل بين المشاركين إلا في الجلسة العامة، وبدوره كان انتقائيا، فقد كانت هناك قائمة جاهزة باسماء من يسمح لهم بالتعقيب. ورغم أن المؤتمر كان مكتظا بالشباب، إلا أن وجودهم كان ديكوريا لم تطرح أفكار شبابية جديدة. ويبدو أنهم شباب منتقون يجيدون فقط اللغات الأجنبية والعلاقات العامة. وهذه خطورة الحديث غير العلمي عن دور الشباب، فالشباب في الحقيقة ليست مجرد مرحلة عمرية، ولكنها عقلية وطريقة تفكير، وإلا كيف نفسر ظاهرة أعداد الشباب الهائلة التي انضمت لتنظيم الدولة الإسلامية(داعش)؟
ولنبدأ من بداية البداية، فقد مثّل قيام مؤسسة الفكر العربي في بيروت عام2000 بالنسبة لي فكرة جديدة مبتكرة، كنت افتقدها دائما في المنظمات والمؤسسات الكثيرة التي نبتت في السنوات الأخيرة. فقد جاء في ديباجة تعريف نفسها:» مؤسسة الفكر العربي مؤسسة دولية أهلية مستقلة، غير ربحية ليس لها ارتباط بالأنظمة أو التّوجهات الحزبية أو الطّائفية، وهي مبادرة تضامنية بين الفكر والمال لتنمية الاعتزاز بثوابت الأمة، ومبادئها، وقيمها، وأخلاقها بنهج الحرية المسؤولة، وتعنى بمختلف سبل المعرفة». والفكرة الجديدة تماما، هي أنها «مبادرة تضامنية بين الفكر والمال»، وقد اعتبرت ذلك بداية إيجابية تعبر عن اهتمام الرأسمالية العريبة الوطنية بقضايا الفكر والثقافة. رغم أن هذه الصلة قديمة في الحضارة الغربية، وتمتد منذ ما قبل عصر النهضة أي القرن الخامس عشر. فقد اشتهرت الأسر الغنية التي امتلكت البنوك في فلورنسا بالصرف على الفنانين والأدباء وتشجيعهم. وقد عرف التاريخ أسرة( آل مديتشي) الغنية، والتي احتضنت أشهر النحاتين والرسامين، وحاولت أن تجعل حياتهم سهلة ومريحة ليبدعوا.ومن المفارقة أن فكرة التبرع للتعليم والثقافة من خلال الوقفيات(Endowments) والمؤسسات التطوعية الخيرية في شكل(Foundations) انتشرت في أوروبا مع سقوط الإقطاع وصعود البورجوازية التي أرادت ترسيخ قيمها الجديدة المتحررة والمستنيرة،فكريا ومعرفيا.
رغم أن الحضارة الإسلامية عرفت مؤسسة الأوقاف، كما حضّ الدين الإسلامي على الصدقات والزكاة والكرم والأريحية، لم يتحمس المسلمون خلال تاريخهم، لتأسيس منظمات مستقلة قائمة على التبرعات تساعد في تطوير الفكر والثقافة، وتساهم في تحسين ظروف المبدعين والمفكرين. فقد غاب هذا التقليد عدا فترات قصيرة خلال الدولة العباسية وفي الأندلس. و يفضل العديد من المسلمين المتدينين الموسرين، بناء المساجد والزوايا، باعتبارها أكثرا أجرا. مع أن كل ما ينفقه المسلم، هو في سبيل الله ويزكي نفسه.. ومن الجلي أن المؤسسة أقنعت الكثيرين بجدوى الفكرة وضرورتها في هذا الوقت، لذلك ضمت قائمة المؤسسين الاربعبن، أهم رموز الرأسمالية الوطنية، ويلاحظ أن كثيرا منهم مهتمون بالشأن العام ولا يقتصرون جهدهم على التجاري. فقد ضمت القائمة أسماء مثل: الشيخ صالح كامل، الأمير بندر بن خالد الفيصل، الشيخ عبدالرحمن الشربتلي، الأمير سعود بن نايف، المهندس نجيب سيوريس، الأستاذ محمد أبو العينين، الأمير خالد بن سلطان، الشيخ عبد العزيز البابطين، الشيخ عبد العزيز كانو، الشيخ محمد الشايع، السيدة بهية الحريري، الشيخ جمعة الماجد، و آخرون من الشخصيات المؤثرة في الوطن العربي. كما أقنعت المؤسسة عددا من كبرى الشركات والمؤسسات، برعاية نشاطاتها المختلفة.إذ تقوم برعاية المؤتمر سنوياً شركات كبرى مثل أوراسكوم، وانتل، وارامكو، وأوفيد، والشايع ،وصحف مثل» الحياة «و»الوطن» و»أوان»، وقنوات عربية كبرى مثل «العربية»، والـ «BBC» .
قصدت من ذكر هذه التفاصيل الوصول إلي حقيقة بديهية ،هي أن المؤسسة تجلس على ميزانية ضخمة تجعلها قادرة على إنجاز الكثير من المشروعات الثقافية والفكرية، أو فعل ما تريد بلا تردد.. ولكن المرء يخشى أن تكون الأموال الضخمة سببا في سلوك ترفي وصرف بذخي، تتشبه فيه المؤسسة بالدول النفطية الغنية. وبالفعل لاحظت ذلك في بعض الشكليات ولكنها ذات دلالة، فهناك ميل نحو استخدام الورق اللمّاع والمزكرش الغالي، وثقيل الوزن. ومن الواضح أن هناك من يرى، أن ترشيد الإنفاق ليس من خصال الأغنياء والقادرين. كما أظن أن أيّ منظمة أو مؤسسة فكرية تفضل الجمال والبساطة على الفخامة والبهرجة. خاصة وأن المهم هو محتوى ومضمون الأوراق والرسائل، والمطبوعات وليس شكلها الخارجي الجذّاب. فالمؤسسة مطالبة بشخصية خاصة ومتميزة لأوراقها وإصدارتها، تكون معقولة اقتصاديا وأنيقة وبسيطة تجذب القراء بلا مبالغة.وكان خبراء التنمية يرددون في وصف المشروعات: مقولة الصغير الجميل أو :(small is beautiful).
ولكن الموقف المحوري والحاسم والذي يقرر نجاح التجربة الفريدة واستمرارها، هو نوعية العلاقة بين الثري أو الرأسمالي الوطني مع المفكر أو المثقف ويذكرني هذا الوضع بالفكرة التي أطلقها (سعدالدين إبراهيم)عن تجسير الفجوة بين المثف والأمير. ولكن العلاقة التي تهمنا في هذا الصدد أي علاقة الثري والمفكر أكثر تعقيدا من العلاقة السياسية. فمن الذي يستطيع أن يتخذ القرار: صاحب الفكرة أم صاحب المال الذي يمكن أن يحول الفكرة حقيقة؟ وهنا الإختبار الحقيقي لوصف المؤسسة بأنها « مبادرة تضامنية». وأُفسر هذا التضامن بأن تقوم المؤسسة علي شراكة حقيقية متساوية الحقوق والواجبات بين الفكر والمال، وهذه هي الضمانة الوحيدة للعلاقة السوية والمستمرة. وكثيرا ما يُخشى في حالة العلاقات المالية أن يكون هناك طيف لعلاقة اليد السفلي واليد العليا. مثل هذا الهاجس يخرّب التجربة المتميزة من أساسها. وهناك أيضا هواجس مضمرة ومسكوت عنها تتعلق بأن يكون «أميرا» على رأس مؤسسة فكرية هي غالبا ما تسعى أن تكون ديمقراطية ونقدية ورافضة بطبيعة المفكرين المكونين لها. وهذا يتطلب موقفا صعبا من الأمير، وهو أن يُنحي ـ في بعض الأحيان- قبعة الأمير ويضع قبعة المثقف، خاصة حين يتعلق الأمر باختيار موضوعات الندوات والمؤتمرات، والبحوث. ولكن الخطورة في أن بعض المفكرين يضعون قبعة أميرية، فهم يستخدمون قرون استشعار تحاول أن تستكشف مقدما ماذا يرضي الأمير؟ وتظل العلاقة والمسافة ملتبسة. ولذلك من المفترض أن تراجع المؤسسة بعد 15عاما طريقة وضع برامجها والأداء، قبل هذا لا بد من رؤية واضحة تستوعب التغيرات الإقليمية والعالمية، لتأطير هذه البرامج.
من الملاحظ، أن المؤسسة وقعت في فخ النخبوية الفائضة، المعوق الدائم للمشروعات الفكرية والثقافية. فالفاعلون الثقافيون في نشاطات المؤسسة العربية للفكر، هي نفس النخبة التي هيمنت علي المشهد الثقافي طوال الثلاثين عاما المنصرمة. فهي تردد نفس الكلمات الخشبية والرطانات ذات الطلاء الحداثي، وقد تفاجأت بالانتفاضات الشعبية وعجزت عن تقديم التحليل الصحيح للتداعيات من صعود الأخوان إلى السلطة حتى قيام الخلافة الإسلامية. لابد أن تتسع اهتمامات المؤسسة إلى جماعات ومثقفين من الهوامش الجغرافية والاجتماعية. فقد افتقدت في جوائز الابداع، جائزة على سبيل المثال، لمنظمة تقوم بحملات محو الأمية في الأرياف العربية.
هذه دعوة مخلصة لمراجعات ولنقد ذاتي تبتدره المؤسسة التي نتعشم منها الكثير.
٭ كاتب سوداني