محمد عبد القادر : عزيزي الصحفي… أنت بين (معقوفتين)!!
أكثر ما يقلقني في السجال اليومي مع رهق الصحافة هو تحدي المهنية، ملوثات بيئة الأداء الصحفي كثيرة لكن أخطرها ما يتصل بمصداقية الصحف، بات من السهل جداً للأسف التشكيك في هذا الجانب وتوجيه طعنات متتالية لجسد المهنة ينسف جسر المصداقية بين الصحف والقراء، استمرار هذا الأمر سيجرد الصحافة من قدرتها على توجيه الرأي العام وقيادة دفة الأحداث.
ساحة الأداء اليومي لم تعد مُعقّمة لأعلى مستوى الممارسة ولا المفاهيم تراجعت كثيراً من القيم المرعية، وباتت البيئة طاردة لا ينجو من سوءاتها إلا من رحم ربي، لذا فمن الواجب أن تنصرف الصحافة الى معالجة الثغرات التي تنسف مصداقيتها وتضع ذمة كادرها محل اتهام دائم.
من منا لا يغضب حينما يحاول أحدهم النَّيل من شرف مهنته، ما زلت أذكر إحساسي والدم يغلي في عروقي لحظة ان هاتفني مكتب د. غازي صلاح الدين مستشار السلام في ذلكم الوقت وهو يحاول أن ينفي خبراً تصدر صحيفة (الرأي العام) على أيام المفاوضات مع الحركة الشعبية في قمتها، الدكتور كان دقيقاً وقد كنت استصحب صفته هذه وأنا أستعين بالتسجيل وأرفض حتى مجرد تفسير النص في الكتابة، حظي العاثر جعلني أضع كلمة قالها لي الدكتور غازي بين قوسين وقد كان التصريح كالآتي: الحكومة مستعدة لتقديم تنازلات صعبة، ولأن صعبة في ذلك الوقت كانت تحمل دلالات كبيرة ذات ظلال سياسية ترتبط بمطالب الحركة المعروفة آنذاك فقد رأيت أن أضعها بين قوسين، حملت تسجيلي وذهبت صوب مكتب د. غازي وحينما اطمأن الى صحة ما نسبته اليه من واقع التسجيل الصوتي فاجأني بقوله: قلتها ولكني لم أضعها بين معقوفتين – أي لم اكتبها بين قوسين، غازي أصدر يومها بياناً قال فيه إنه لم يضع الكلمة بين (معقوفتين)!!
كان هذا نوع السجال بين الصحافة والمسؤولين، صعب جداً أن يخترق مصداقيتك أحدٌ، ولن يستطيع كائن من كان أن يطعن في الشرف المهني للصحف، غير أنّ جملة أسباب إدت الى تراجع مصداقية الصحافة، أخطرها على الإطلاق تلكم المتعلقة بزهد البعض في المهنة وإطلاق أحكام مبكرة على ما يمكن ان تضيفه لحياتك مادياً ومعنوياً وضعف الإكتراث لقيمة الخبر ومصداقية المنبر الذي تنتمي إليه بل عدم الإحساس بما سيترتب على اسمك من النشر الكاذب .
بصراحة هنالك نماذج باهرة لصحفيين متميزين مازالوا حريصين على قداسة الانتماء لمهنة الصبر والابتلاءات، غير أن هنالك من هزمهم واقع الصحف وهي تجعل كوادرها نهباً للضياع، ضعف تدريب، قلة عطاء مادي، فقر في المعينات، أُفق مظلم ومستقبل لا يحفز على الإحساس بالأمان.
الصحافة مهنة لا تقبل (صاحب بالين)، ولا تحتمل من يمارسها بلا ضمير، هي عمل لا يَمنحك بالضرورة بقدر ما تعطيه لذا فإن البُعد القيمي والرسالي لابد أن يكون حاضراً وأنت تتصدى الى المهمة الشاقة، حبل الكذب قصير في هذه المهنة مهما حاولت أن تتذاكى على الواقع فإنها لن تحتملك إلا صادقاً، ستكتب فناءك واحتراقك في لحظة ما أن حاولت أن تبيع ضميرك أو قلمك أو تزايد بمبادئك، وستخسر كثيراً إن حاولت توظيف السلطة المعنوية لتضخيم ذاتك أو الإضرار بأحد من خلق الله، أنت أمام خيارين إما أن تكون صادقاً أو تُغادر المهنة الى كار آخر.