محمد رفعت الدومي : نجَّار القرن
لم أر في حياتي شخصًا يحب الكابتن “ممدوح فرج” بقدر ما رأيت العم “عبد الباسط” يحبه، ولم أر في حياتي شخصًا يحرص علي ترقب برنامجه علي القناة الثانية بقدر ما رأيته يحرص، وبقدر ما رأيته يفعل لم أر في حياتي صعيديًا لا يعرف الألف من كوز الدرة يحفظ أسماء المصارعين وسيرهم الذاتية كاملة، وينطق نطقاً سليمًا مفردات أجنبية مثل : “سوبلكس”، “مانشيت”، “كلوز لاين”، “سبير”، وأتذكر جيدًا أنه كان أول مصدر أخذت عنه أن “عفركوش ابن برتكوش” عفريت فيلم “الفانوس السحري” هو عم “ممدوح فرج”، وأشهد الآن أنه كان مسكوناً بروح خفيفة الظل من الصعب أن يتحامل عليها أحد، تمامًا كروح “ممدوح فرج”، ولا أجد تفسيرًا لذلك الاشتباك الذهني بينهما أكثر منطقية من أن ذاكرة صباي كانت قد خزنت صورة الرجلين في إطار واحد معًا، لكل هذ ربما، عندما رحل “ممدوح فرج” قبل عام وأكثر شعرت بأن نبضة من عالمي تهرب، وأنا هنا لا لأهينه، إنما لأهين رمزيته ورمزية أمثاله الذين اشتركوا في استدراج مصر إلي مشارف المجهول، وجعلوا منها أرضًا حتي الطيور المهاجرة لا تأمن المرور فوقها، ونسوا أو تناسوا مثله أن الماضي جثة أمينة، وأن حصانة الحاضر سريعة التآكل، وأن المستقبل لا يدخله أحدٌ ليبقي فيه إلا بعد اجتياز بوابات الماضي والحاضر مبرءًا من كل موقفٍ ضد الإنسان، وأن طعنات المظلومين المكتوبة والمسموعة والمرئية جراحها لا تلتئم أبدًا..
كان وجه “ممدوح فرج”، ولا يزال، بإمكانه أن يستدعي إلي ذاكرتي وجه العم “عبد الباسط” بكل وضوح، وأن يعوِّم علي سطحها مقولته هذه التي كان يرددها كثيرًا حتي ارتبطت بحضوره في ذاكرة البلدة :
– اتفوووه علي رُبع مليون دولار!
كان مسكيناً وتعيس الحظ وهدفاً دائمًا لغارات الفقر إلي حد جعلني أعتقد يومًا ما بأنه لو حالفه الحظ لمرة واحدة وتمكن من سرقة أحد البنوك سوف لا يكون في النهاية سوي “بنك الدم” أو “بنك المصل واللقاح” أو “بنك الحسنات” التي قد يحتاجها غيره، أما هو فلم يكن بحاجة إلي حسنات، ذلك أن “الفقر حشمة” فقط حين يتعلق المثل بفقير بلغ من الفقر حدًا يمنعه قسرًا من ارتكاب أفعال غير محتشمة، وهكذا كان العم “عبد الباسط”، كانت النقود بالنسبة إليه من الغيبيات، كما كان شعوره الحقيقي بتربص السماء به وتعمدها إفقاره وإهانته أمام الناس هو مصدر علاقته المبتورة بالعبادات، هذا جعل بعض الفارغين عندما يملئون أحياناً في المساءات أوقاتهم بإحصاء عدد المواظبين علي الصلوات في البلدة يضعون اسم “عبَّاسط” في صدارة الذين لم ير أحدٌ أيًا منهم “يركعها” قط، يحدث أحياناً أن يستغرق أحد المسنين في التفكير لثوان يعرب بعدها عن شكه في أنه رآه مرة يصلي الجمعة منذ سنين، وفي بلدة لا تنام علي سر، كانت هذه النمائم تصل إلي العم “عبد الباسط” فيأخذها علي محمل السخرية ويستدعي دائمًا منطق العصاة في كل مكان : ارمي بياضك، من قدم السبت يلاقي الحد، تراعيني أراعيك، ارزقني الأول وأنا ما اطلعش م الجامع، لقد كان معتدَّاً بعصيانه، وكان الأمر بالنسبة إليه نزاعًا بين طرفين، هو والسماء، ورفض من جانبه الاستسلام حتي آخر دقة من دقات جرس النهاية!
حتي نهايات الثمانينيات وصيغتها الزمنية الرزينة، كان “ممدوح فرج” لا يزال متزناً، وكان يكتفي في بداية مساره بالتعليق علي المباريات بلهجة رياضي أنفق بعضًا من عمره في ممارسة اللعبة فقط، لذلك، ولشعبية مصارعة المحترفين، تواصل زحف اسمه علي مساحاتٍ لا بأس بها من جماهير اللعبة دون عوائق، لكنه، في سنوات عمره الأخيرة، عندما نمت شعبيته بشكل تجاوز أحلامه وصل إلي حالةٍ منفرة من الاعتداد الزائف بالنفس والتشبيب بها، وفيما بدا أنه أصيب بكل الأمراض الناجمة عن هالة الضوء المدبر التي طوقت حياته دون أن يستعد ذهنيًا لها، تناسي أن أحدًا من المشاهدين لم يره قط يخوض مباراة حقيقية، وراح يملي عليهم بتهور أنه ليس فقط المصارع الكبير كما يظنون، ولا “مصارع القرن عن قارة افريقيا”، إنما هو عالم قائم بذاته من مصارعة المحترفين بموازاة عالم مصارعة المحترفين، ولا أشك أبدًا في أن إصابته بهذه الأمراض بدأت بقيام مجموعة قنوات “ART” بشراء لقب مصارع القرن له بهدف تلميعه تنفيذاً لوصية منظمات سرية تسيطر منهجيًا علي العالم من القطب إلي القطب، وهو ما حدث مع بعض الدعاة المزيفين وغيرهم أيضًا!
وفي بداية التسعينيات، كنت قد كبرت بالقدر الذي يكفي لا لأعرف فقط أن “ممدوح فرج” لا مصارع قوي ولا حتي متوسط القوة إنما لم يخض طيلة حياته إلا خمس أو ست مباريات ضد مغمورين من مصارعي اتحاد أوروبا، المرة الوحيدة التي واجه خلالها خصومًا حقيقيين وهزم بعضهم كانوا ضيوفاً علي القاهرة بمقابل مالي، سبوبة، ومن يري أيًا من مبارياته مع أحدهم سيكتشف علي الفور أنه إنما أمام خشبة مسرح لا حلبة مصارعة، ولقد حاولت أكثر من مرة أن أجلد العم “عبد الباسط” بأفكاري الطارئة عن حقيقته، وأن أسفه السرديات المبالغ فيها التي سمعناه يحكيها عنه، وأن أؤكد له أنه هو، العم “عبد الباسط”، ما زال بإمكانه، حتي بعد أن سقط فريسة لعدة أمراض، أن يعجن “ممدوح فرج”، لكنه كان صلدًا في الدفاع عن رأيه ما جعلني اكتشف أنه علي استعداد أن يصدق أنه من الممكن أن يملك ذات يوم 500 جنيه صحيحة، لكن، أن يصدق أن “ممدوح فرج” لم يكن ذات يوم بطلاً للعالم في المصارعة قتل ذات يوم مصارعًا علي الحلبة فهذا مستبعد تمامًا!
لقد نجح “ممدوح فرج” في الاختباء خلف صورته الذهنية المغلوطة سنين طويلة، وكان من الوارد أن يورِّثها للتاريخ لولا تهوره وإفراطه في التردد علي علب الليل وسيولة شهيته للضوء في السنوات الأخيرة من عمره، تقديم برامج، وإعلانات براقة تعزز من أفكار الناس السابقة عنه، والتطفل علي تجارب سنيمائية رديئة لم يصمد بعضها في دور العرض أكثر من ساعات، كفيلم “علقة موت” الذي لعب فيه دور المدرب دون أن يدور بباله أنه سيكون ضحية لـ “علقة موت” في سينما الواقع قبل نهاية العام نفسه!
حتي بعض المتهمين بالثقافة كانوا علي قناعة تامة بصحة تلك الشائعات التي نسجها هو حول نفسه، وأتذكر أن مذيعة سألته ذات مرة سؤالاً بطعم الإجابة:
– وطبعًا أكيد الكابتن “ممدوح” بيفطر بخروف؟
وهو، بمنطق : “أنا متواضع جدًا .. وما بأحبش أتكلم عن نفسي كتير”، نفي هذا الكلام وأكد أن طعامه كطعام كل المصريين ما أثار دهشة المذيعة، هي علي كل حال أقل “هَبَلاً” من أهلنا في الجنوب الذين كانوا يأخذون أساطير السيرة الهلالية علي محمل الجد، ويصدقون “جابر أبو حسين” أعظم شعرائها علي الإطلاق حين يحكي لهم عن شخصية خيالية من شخصيات السيرة، فيقول نثرًا بين فواصل الأبيات :
– والوحش “برطوم” كان ياكل في اليوم 3 جِمال، يُفطر بجمل ويتغدي بجمل ويتعشي بجمل، وقبل ما ينام كانوا بيجيبوا له خروف لباني اظغير كده يقزقز فيه!!
أقسم أن ظلالاً من الشعور بالخجل تمر الآن بأعماقي لأني تذكرت أني حتي سن التاسعة كنت أصدق هذا الكلام الذي لعب في تغذية معارك الجنوب دورًا لا يقل عن دور شعر الحماسة في الزمان الأول، كلهم كان يحلم بأن يشبهوه عقب المعركة بـ “أبوزيد الهلالي” أو “دياب بن غانم”، وبأن تمضغ سيرته ألسنة النساء والبنات، ما عدا الجد “عبد الرحمن” صاحب المبدأ الذي أبقاه أيامًا طويلة من عمره طريح الفراش وأفقده الكثير من الدم المجاني وحرمه من خوض العديد من معارك العائلة بالأمر المباشر، لقد كان يستحي أن يضرب امرأة في المعركة حتي وإن بدأت بالإعتداء عليه، وهذا خُلُق من أخلاق المؤمنين كان يجب أن تشكره البلدة علي التحلي به لولا أن معظم نسائها أشد كفرًا ونفاقاً من الأعراب، فما إن عرفن فيه هذا الخلق، وتأكدن من عدة تجارب سابقة أن المسكين متمسك بالتحلي به دائمًا، حتي تناقلن الخبر، وكن، بعد ذلك، قبل بداية المعركة، يتفقن معًا علي اعتباره أول فريسة يجب استهدافها عن قرب بقوالب الطوب والأحجار وضربات الشوم، وتخفيفاً من أعباء القتال عن الرجال لابد أن تنوب إحداهن عن الأخريات وتقول لهم بلهجة تآمرية:
– سيِّبوا لنا “عبدروحمان” وخلِّيكم في التانيين!
من الطبيعي إذاً أن يكون الجد “عبد الرحمن” أول المصابين في المعركة، وأول المحمولين علي سواعد الرجال إلي منازلهم أو إلي الوحدة الصحية، حسب درجة الإصابات ومواضعها، وكانت زوجته المصابة عادة أثناء الدفاع عنه تهرول خلف الموكب ولسان غيظها المكتوم يخاطب جريحها قائلاً: يا أيها الرؤوف الرحيم!
بمرور الوقت، قبل إندلاع إحدي المعارك المتوقعة، طلب منه كبار عائلته علي الملأ بلهجة حادة ومشوبة بمظاهر الغضب الحقيقي أن يختار بين التزام بيته حتي تنتهي المعركة تمامًا، وبين أن يكون في المعركة غشيمًا يضرب “عمياني” دون تمييز بين رجل وامرأة، وحجتهم في ذلك سليمة : ما دام عدد المصابين في الجانبين هو المؤشر الوحيد علي النصر أو الهزيمة، فلماذا يُحسب علي العائلة مُصاب مؤكد في احصائيات معركة اشتراكه فيها لا يحدث فرقاً إلا بالسلب في توازناتها؟
في البداية، وقبل أن ينصاع لأمر عائلته ويعتزل رياضة العراك نهائيًا، احتج بعنف، وصاح في انفعال حقيقي:
– دمي ما يجيبنيش يا ناس نُضرب مَرَه .. ولا نقدر نُقعد في البيت والعيطة شغالة!
ولربما كان الجو المشحون بكل مظاهر التوتر والمخاوف التي تسبق المعركة عادة هو ما دفع شابًا أصغر منه سناً بكثير إلي أن يشهر غضبه بلا خجل ويصيح به في انفعال :
– يعني نعينوا لك ناس تحرسك في العيطة يا عم “عبرحمان”؟ يا راجل مايز علي دمك شوية، راضيك يعني كل عيطة نجيبوك شايلينك؟
هذا الهجوم العفوي أخجل الجد “عبد الرحمن” حقاً وجعله ينسحب إلي بيته صامتاً، وظلت ذكراه عائقاً لا يستطيع أن يجتازه أبدًا ليواصل الاحتجاج علي قرار عائلته بإقصائه عن معاركها، كما أضاع علي العائلات الأخري فرص الفوز بمصاب مضمون، ولقد توقعت أن يحذو “ممدوح فرج” حذوه ويتقاعد عن أي نشاط يتعلق بالمصارعة بعد علقة “عزبة خير الله” لكنه لم يفعل!
في ذلك الوقت، ربما لأن الحاجة “أم ممدوح” نسيت أن تدعو يومًا لابنها “ممدوح” كبقية النساء أن يكفيه شر الطريق وشر أولاد الحرام وشر النجارين، أو أن يموت قبل ديسمبر 2009، أي قبل اندلاع مشاجرة بين “مصارع القرن” وبين نجار باب وشباك من “عزبة خير الله” بحي البساتين يدعي “أحمد حسين” ذكر الإعلام أن سببها هو حصول النجار على مبلغ مالى لتجهيز ما تحتاجه صالة “جيم” أراد “ممدوح فرج” تأسيسها في الدقى من أثاث، إلا أنه لا جهز شيئاً، ولا رضي أن يرد ما حصل عليه من نقود..
وللأمانة، وللتاريخ، ولوجه الحقيقة، يجب أن أقول: كانت المشاجرة بين النجار!
ذلك أن ما أصيب به “مصارع القرن من منازلهم” من عشرات الجروح والكدمات والسحجات في معظم أنحاء جسده يجعلني لا أصدق أنه كان في المشاجرة أصلاً، بلغة “ممدوح فرج” : خَلّلللص عليه!
ما هو أكثر من هذه الملهاة تحريضًا علي الخجل أن “ممدوح فرج” لم يكن أعزلاً، بل كان مسلحًا بصاعق كهربائي كالذي تقتنيه العذاري بهدف الدفاع عن أنفسهن عند الحاجة، نقطة هزلية تكمن دلالتها الدنيا في أن “مصارع القرن” كان يعرف أن قوته الحقيقية لا يمكن أن تسعفه في شجار حقيقي، وتطرح سؤالاً مشروعًا :
– لولا وجود الصاعق الكهربائي .. ما الذي كان يمنع “نجار القرن” من أن يكشف مؤخرة “هوجان مصر” ويهين رجولته؟!
لم يعد “ممدوح فرج” بعد هذه الحادثة أبدًا كما كان قبلها، صار شديد الحذر عند الكلام عن ماضيه في عالم المصارعة، وصارت ضحكاته شاحبة، وسكنه هاجس بأن كل مديح يوجه إليه يحمل في طياته سخرية مبطنة، وكنت أتألم من أجله، لكنني كنت أتألم أكثر من أجل موت العم “عبد الباسط” قبل هذه الحادثة بعام ونصف، فيا ليته كان انتظر حتي أتمكن من أن أنقل إليه الخبر مكتوبًا، وأري كيف يكون رد فعله عندما يكتشف أنه إنما قضي عمره يعبد صنمًا من بسكويت!
رحم الله كل من عبروا وتركونا أهدافاً سهلة للدغات الحنين..
محمد رفعت الدومي