قليل من الفرح كثير من السأم
> هناك جرأة لا سابق لها من الجميع لجلد الحكومة على ظهرها، واستسهال انتقاد السياسات العامة للدولة، ولا تكاد الصحف والمجالس العامة ومداولات البرلمان وتعليقات الأعضاء والسمنارات والمنتديات والندوات وكثير من اللقاءات الرسمية وغير الرسمية التي تلتئم صباح مساء في الخرطوم، تخلو من انتقادات حادة لكل ما هو حكومي، حتى يصيب البعض الإحباط بأن بلادنا تقف على شفير هاوية أو هي بالفعل تهوي إلى القاع..
> في السابق كما هو معتاد ومعروف، تظل الأصوات الناقدة والمستشيطة غضباً، هي أصوات المعارضة والمعارضين، ولكن الآن هناك ما يشبه حالة هياج تلبس كثير من الناس حتى مؤيدي الحكم في إطلاق الأحكام وتوزيع التهم وإلصاق كل ما هو مشين بالحاكمين، وهذه الحالة تتسع مع الأيام وتكبر وتنتفش وتتكاثر، دونما سبب ظاهر وشاخص، كأن المفرحات تراجعن أمام المنغصات المبكيات..
> ولعل السبب الرئيس راجع إلى طبيعة الحياة المعقدة المركبة، واتساع الهوة بين الحكام والمحكومين ونقص البيانات والمعلومات، أو الأخطاء الجسام التي تُرتكب كل يوم، وسوء التقديرات من بعض المسؤولين عن الشأن العام.
> والسودانيون بطبعم، ينشدون المثال في كل شيء، لهم مقاييسهم الدقيقة والصارمة في النظر للحياة العامة والكيفيات التي ينبغي أن يكون عليها الأداء التنفيذي لمن يتولى الولاية العامة أو يتسنَّم موقعاً حكومياً لخدمة الناس..
> وهذه الطبائع تجعل من الشعب السوداني واعياً وملولاً وذا رأي، لا يحتمل كثرة الأخطاء والخطايا، ثم إنه شعب لا يعرف كيف يكتم تعليقه أو يلوي عنق الحقيقة. فانتقاداتهم تجري على السليقة وبالعادة على ألسنتهم، ولذا يراقب ويرى ويسمع ويتكلم ويحكم على كل شيء، وليس بالضرورة أن يكون كل ما يُرى ويُسمع صحيحاً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فمن كانت هذه طباعه في النظر، فلا حدود لما يقوله وما يصدره عنه من انتقادات..
> ولهذا لم يهنأ في تاريخ السودان مسؤول كانت أذنه (باردة) لا يسمع إلا خيراً، فلا الشعب السوداني من النوع الصامت الساكت الذلول، فقلما ما يرضى وكثيراً ما يحتج ويرفض ويثور. فحياتنا العامة في كل أشكالها وأطوارها، مفتوحة تتيح للسودانيين التعليق وإبداء الرأي والتحدث في السياسة وشؤون الحكم والإدارة والمعاش، بلا خوف في كل مكان. فما يُقال في مجالس المدينة وفي المناسبات شبه الرسمية والجلسات الاجتماعية أو غيرها، تقوله الصحف وتجده في وسائل الإعلام وفي شبكات التواصل الاجتماعي، يتبادلون فيما بينهم كل معلومة أو رأي، ويطلقون الأحكام ولا يخشون شئياً، وهذه محمدة بالرغم ما فيها من جنوح أحياناً وقول جزاف..
> الحكومة اليوم في زماننا هذا وتطور أساليب ووسائل تبادل المعلومات، لا تستطيع فعل شيء وهي في قفص الاتهام اليومي، لا يسلم جسدها من طعنات الصحف أو رشقات المجتمع ومجالس المدينة وانتشار الأنباء والأخبار والأقوال والتعليقات الناقدة، فما الذي سيدرأ عنها سيل الانتقادات اليومية، ويصد عنها ذباب السيوف القريبة من نحرها؟..
> ليس أمام الحكومة إلا انتهاج نهج آخر، هو التعامل بجدية مع غول كاسح هو الإعلام والاتصال، عليها ألا تمارس فضيلة الصمت، ويجب أن تنطق وتتحدث وتثرثر بما لديها وتقول ما عندها وتطرح صحائفها وتقول للجميع هاؤم اقرأوا كتابيه ..!
> بات على الحكومات أن تكون هي صاحبة المبادرة، وليست حائط الصد الذي تتكسر عنده الرماح، وعليها أن تسارع بالقول في كل ما تعمل وتعرف. لقد انتهى زمن الأضابير وكتم الصوت والمسؤول الأبكم، النظرية الآن هي أن تقول كل ما لديك وتحسن تقدير ما تعطيه من معلومات وأرقام وبيانات، ولا تترك أية مساحة للتأويل والتفسير والتبرير..
إن فعلت الحكومة ذلك قللت من السلع الفاسدة المعروضة في سوق الكلام، ووأدت الكثير من الانتقادات والشائعات في مهدها، وصنعت التواصل بينها وبين عامة الناس، وقضت على ثرثرة المجالس، ولملأت صفحات الصحف بالحقيقة الساطعة ..!