تحقيقات وتقارير

رواية (حاملات القرابين) للروائية زينب بليل ثلاثة أضلاع صنعت الدهشة!


حاملات القرابين للروائية زينب بليل، تعتبر تصعيداً مثيراً لرؤيتها الناجزة للواقعية الاجتماعية بميولها السحرية الواضحة المستفيدة من الذاكرة الاجتماعية الحافلة بحكاياتها وأساطيرها المحتشدة بعاداتها ومعتقداتها وتقاليدها وأعرافها المتواترة والمتوارثة بمعزل عن معارف العصر وفتوحاته العلمية والثقافية الجديدة.
الرواية لا تكشف عن واقعها في زمان ومكان كتابتها لكنها تكشف بقسوة ووحشية عن فظاعة الواقع السياسي، الاجتماعي السيئ في أجواء العالم الثالث ومدى بؤسه ومأساويته والجنون السلطوي لنخب الحكام الذين ينتصبون حكاماً على شعوبهم إلى الأبد.
ثلاثة أضلاع تشكل هندسة هذه الرواية البركانية التي لا تبدأ من نقطة صفر ما، لكنها تشتعل من الوهلة الأولى وتستعر في تدفقها الحممي حتى نهايتها دون أن تمنحك سانحة أن تفكر في موضعك داخل هذا العالم المتقاطع الذي يعبر عن أكثر مناطق تفكيرنا جدباً (السياسي) لكنها تترك باب الأمل مشرعاً من جهة الثورة والاحتمال الدائم أو الحلم الأبدي بالتغيير وسط زخم الأصنام الكثيرة التي تشكل مرجعيتنا السياسية والدينية والاجتماعية بل القيود التي يرزح فيها إنسان العالم الثالث في رحلته المريرة من المهد إلى اللحد دون وميض من سعادة.
الضلع الأول: الاستبداد السياسي:
إن أكثر الموجودات رسوخاً وثباتاً في هذا الواقع الاجتماعي/ السياسي، وتعبر عنه الرواية بتركيز شديد هو الاستبداد. الاستبداد الذي يتخلى عن كونه (حالة) أو (نزعة) في هذا الواقع ويتجه إلى أن يكون عقيدة مقدسة في العرف السياسي والاجتماعي على السواء.
فمن خلال شخصية الحاكم (هزبر) يتكشف هذا الاستبداد في أكثر صوره فظاعة: نهب ثروات البلاد/ اغتصاب الفتيات/ تعذيب الناس وتجويعهم والتصفية الجسدية والإبادة الجماعية. لقد عبّرت الرواية عن هذا الاستبداد بوضوح وأسلوب واقعي لدرجة أن تطاير الشرر من بين سطور الكتابة.
ويتجسد الاستبداد الاجتماعي الذي عبرت عنه الرواية في جملة العادات الاجتماعية التي تنزع إلى التميز النوعي الذي يبدد حقوق المرأة سواء في الميراث أو حق اختيار الشريك أو على الأقل الموافقة عليه ومنظومة حقوق المرأة كزوجة. وهذا الاستبداد المتوارث على استعداد دائم لتجاوز الحقوق الشرعية التي تعبر عنها الأديان السماوية والقوانين الوضعية التي تسعى إلى تأسيس علاقة رشيدة بين الطرفين وكذلك تجاوز كل الثقافات والمعارف الحديثة التي تسعى للارتقاء بالعلاقات الاجتماعية إلى مستوى من الرفعة والرقي.
الضلع الثاني: الثورة:
في متلازمة الاستبداد، الثورة تمثل دائماً الفعل المضاد، أو ردة الفعل التي يراد لها إعادة الأمور إلى نصابها، فبقدر ما كان الاستبداد مستعراً في أجواء الرواية كان تيار الثورة يمضي بهدوء وقوة في الاتجاه المعاكس.
وهذه الثنائية المتلازمة أبقت باب الأمل مشرعاً وسط ظلاميات الواقع بتركيز واضح ومقصود. فالرواية لا تريد مغادرة المشهد دون أن تزرع بذرة أمل دائم في هذا الحقل كأنها تريد أن تقول إذا كان الاستبداد هو قيمة معطى في هذه المعادلة فإن النتيجة النهائية لهذه المعادلة هي الثورة. حتى وإن اتخذت المعادلة أسلوب المداورة أو تبادل المواقع بين طرفيها.
فالنبراس قائد شباب التغيير الذي يوظف الصقور التي يقوم بتربيتها وتدريبها لتلعب دوراً في هذا الصراع لا ينفك هو بدوره عن الطيران في جزء من مشهد المواجهة بين الثوار وجنود النظام الحاكم (المرتزقة) لتحقيق النتيجة النهائية التي يراد لها أن تسود وهي سقوط أنظمة الاستبداد وانتصار الثورة بالتالي في نهاية المعادلة.
الضلع الثالث: الأسطورة:
تتكئ هذه الرواية في الأساس على هيكل من الأساطير التي تتداول الذاكرة الاجتماعية بعضها في نصوص حكايتها الشعبية.
فأجواء الرواية تبدأ في الفضاء حين تنفتح أولى مشاهدها (هناك) في حوار بين الأرواح المحلقة. ومن ثم تبدأ تلك الأرواح في النزول إلى الأرض والسكون في أرحام النساء لتتشكل وتولد من جديد لتعيش تجارب تالية في الحياة وقد تتعدد تجاربها بحسب رحلات صعودها وعودتها مجدداً إلى عالم الناس في الحياة الدنيا.
وقد لعبت هذه الأرواح أدواراً أساسية في صلب الرواية فأغلب الشخصيات المؤثرة هي بالتالي أرواح عائدة على سبيل المثال (النبراس) أحد أبطال الرواية والحاكم المستبد (هزبر) وأمه الملكة (جلنار) وهكذا.
ولعل عنوان الرواية نفسه (حاملات القرابين) يرجع إلى أرواح فتيات عائدات اكتسبن بجانب شفافيتهن كأرواح مقدرات سحرية جعلتهن يلعبن دوراً أساسياً في النص من خلال تقديمهن خدمات كشف الغيبيات وعلاج حالات المس والسحر وما إليها بل أن بطل الرواية نفسه هو ابن لإحدى حاملات القرابين.
وفي هذا الزخم الأسطوري تبدو شخصية الشيطان ظاهرة في المشهد الروائي كفاعل حيوي وشخصية محورية كحاكم لمملكة مندثرة أو راع لحاملات القرابين اللائي ينظر إليهن كدليل يسترشد به للعودة إلى عرشه المسلوب.
من شخصيات الرواية كذلك ولعبت دوراً بارزاً في معركة التحرير وهزيمة الاستبداد جيوش الصقور التي دربها النبراس في عهد الملك السابق وتم استثمارها في أحداث الثورة ويعتبر دورها على النحو الذي وضعت فيه مؤثراً وفاعلاً في الأحداث وأضفى جواً من السحرية على مشاهد القصة.
إن المتن الحكائي للرواية يتألف من عدد من القصص المتداخلة إلى جانب القصة الرئيسية التي تمثل الصراع الكبير بين السلطة السائدة والمعارضة ويأخذ في الغالب طابع العنف الدموي من جهة السلطة والعمل السري الدؤوب من قبل المعارضة وينتهي بانتصار الثوار.
هذا الصراع مثّل انعكاساً لطبيعة العلاقة بين الحكام والشعوب في العالم الثالث في ظل غياب الديمقراطية والحكم الرشيد الذي يتأسس على التداول السلمي للسلطة واحترام الآخر.
ثمة تيارات قصصية متقاطعة داخل النص الرئيسي، بعضها يمثل تياراً رافداً للقصة الرئيسية وبعضها يستقل عنها ولكنها في ذات الوقت تتسق والنسيج العام للرواية.
إن الفضاء الأسطوري الذي تتحرك فيه الرواية يشير إلى خصوبة الواقع الاجتماعي الحاشد لذاكرة الكاتبة وتجلياتها ويتسق مع الحكي الشعبي الذي يستلهم هذا الفن في حكاياته المروية.

الصيحة