ماذا نفعل .. غطتنا غيوم المدن الصفراء؟!
(أ)
تصهل الريح الجامحة في كل مكان، وتسيل عيون المزاريب، وتركض كل الكائنات هناك كأنهن صاعدات للسماء مثل عطر المجامر، لا شيء يوقف الحياة المشعة أن تضيء، وهي تتحدى الشمس ومدارات النجوم بشعاعها البهيج، كتمثال حجري مرمري تنعكس على مرآته أوشحة النهار، هكذا يظل الريف السوداني في أية بقعة وصقع وأرجاء، هو ذاته لا يتغير، لا تركد مياهه، ولا تذبل إشراقاته، ولا تنزوي أغصانه، أو يتشح بالكآبة وتختنق أغصانه بالبكاء.. هو ذاته الريف في مناطق الرعاة والرحل الفرقان، أو القرى المتناثرة في الوهاد والقيزان، وعند سفوح الجبال وعلى أطراف الأودية ومسيل السيول..
تحمل قرانا وفرقاننا، أوشمة في نسيجها العاطفي والاجتماعي، نقوشاً سماوية كما يظن صديقنا (ط)، وتجري في أوردتها بلازما وصفائح دموية أنقى من عصارات السحر والأساطير والقصص الخرافية ورقصات النجوم الولهى على وهج النار والحريق والصبر والانتظار..
كل طقس عجيب من حميد الخصال وجميلها، وصار مزاراً من مزارات الزمان والتاريخ والإنسان، توالد من شعاب القرى والأرياف وسكنته روح تضرب بهامتها شعاب التعاريج البعيدة في الجمال والجلال، شيء تحسه في دماك وشغاف قلبك، تجده في خلاياك وأنفاسك، هذه الأصالة الراسخة، تمشي معك تنام أنت في خدرها وتضيع في عالمها آفاقها المرصعة بالظلال..
بعض المدن لم تزل تائهة وهي تبحث عن ذاتها المفقودة، وبعض القرى لم تزل حاضرة وهي تثمر آلاف المرات، يتساقط رطبها على كف الحياة، فالمدن تعيش في بخور التعاويذ الخرافية، الميتة بأنها هي الأصل والسمو، بينما تضحك القرى والفرقان هازئة تمد أرجلها كما أبو حنيفة، تسخر من هذا الاهتيام الزائف، وتعلن بصمتها وضحكها أنها سابحة في بحار من صفاء لا شطآن لها ولا ضفاف، يتمطي موجها فوق موج.. وتمد بواباتها من التراب إلى السحاب ..!
(ب)
ونحن في الطريق من الأبيض إلى الدبيبات إلى الدلنح، ومنها إلى كادقلي، كانت القرى المتناثرة، تتهامس سراً، كأنها تحكي أقصوصة محرمة، لا صخب ولا ضجيج مع الحياة، إلا المنشغلون بصناعة الحياة البسيطة ونسج أثواب القناعة والبهاء والزهد التي يرتدونها، لم تعطهم الحياة من زيفها وبهرجتها الكثير، فصاروا أجمل منها وأنبل وأغنى، كأنها تنفخ رماد المدينة عن ثيابها وظهور أياديها، وتنظر إلى الغريب القادم عابر السبيل، كأنه في حاجة أن يتكئ عندها يكسر جرة الخمر الإلهي المتعق، ويزرع في الصمت المخيم ازهاراً وقناديل تشتعل من إيقاع الزمن الجموح..
في الطريق قرى كثيرة، في شمال كردفان تنضح بماضيها وأمنها واستقرارها، بينما قرى في جنوب كردفان مايزال وشم الحرب على جلدها، وصدى البكائيات المعذبة يرن في أسماعها، وأرصفة الحزن تمتد طويلاً حتى شفقها وأفقها المطرز بالخيوط الرمادية الباهتة..
(ت)
والعربة تنهب شارع الأسفلت نهباً، عند خروجنا من الأبيض، كانت قرية (أم عردة) تلوح على يمين الطريق كالدرة على تاج الريف الممتد، وهي واحدة من أكبر حواضر قبيلة البديرية في شمال كردفان، قطاطيها وأشجارها أشبه ما تكون بثُريات الذهب المتدلية من سقف التاريخ..
لاحت منطقة وقرية (كازقيل) أشهر مناطق صناعة الجبنة من حليب الأبقار، وقد عرفت صناعة الأجبان على يد الخواجة الإغريقي (نيوتي) قبل عدة عقود وماتزال، ثم مررنا بمنطقة (الإبنويا) وكانت في ما مضي قبل طريق الأسفلت محطة مهمة من محطات اللواري السفرية المتنقلة ما بين غرب السودان إلى جنوب السودان، وبها شجرة تبلدي عظيمة ضخمة، كان سائقو اللواري ومساعديهم يتفيئون ظلها ويصنعون طعامهم تحتها، ويقومون بإصلاح أعطاب السيارات عندها وحولها القهاوي والمطاعم. ومن طريف الحكايات أن مشروب (التكاي) الذي كان يصنع في هذه المحطة قد منع شربه ومنعت صناعته عقب إعلان الرئيس الأسبق جعفر نميري للشريعة الإسلامية لأن هذا المشروب اختلف حوله هل هو حلال أم حرام.. وكانت تمتلئ به قهاوي ومطاعم السوق والموقف الكبير.
مررنا بسرعة على خور ( شوشاي) وهو الحد الفاصل بين شمال وجنوب كردفان، وكانت على جانب الطريق الأيمن قرية فارس (فاكسين) الموطن الأصلي للقيادي الإسلامي الكبير الشيخ إبراهيم السنوسي، ولاحت لنا قرب الطريق مع دورته وانعطافه الكبير منطقة (الحمادي) وهي من أكبر معاقل الحوازمة ومقر نظارة الناظر الشهير ( محمد حماد أسوسا) رحمه الله وورث عنه الزعامة ابنه (الناظر بقادي محمد حماد). ومن أبناء الحمادي المشاهير الأستاذ بشرى بقادي والبروفيسور حماد عمر بقادي وسلمان سليمان الصافي الوالي والوزير السابق، والعمدة محمد جمعة حميدة والشريف إدريس(أم بشق)، وتذكرت وأنا أشاهد الحمادي المرحوم الصديق العزيز حاتم محمد إدريس الذي عرفته في العاصمة الليبية طرابلس، كان طيب القلب، كريماً شهماً اختطفته يد المنون هناك، ولعله الآن ينعم في جوار رب كريم غفور رحيم، وشاهدنا محطة السلكك الحديدية العريقة وخور وكبري الحمادي الشهير الذي كان دائماً ينهار في كل فصل خريف، فيتوقف قطار نيالا لأيام وأسابيع طويلة حتى يتم إصلاحه..
من هناك مررنا بقرية (ام كناتيت) ووصلنا الدبيبات عاصمة محلية القوز، وهي متوهجة في ذلك الضحى بسوقها ومن على البعد سوق الحاجز أحد أكبر أسواق الثروة الحيوانية في البلاد. أحياء الدبيبات (هبوب القبة، أمبدة، الحي الجنوبي والحي الغربي ) كانت تشهد نهضة عمرانية ضخمة والمدينة كلها تتقدم وتتطور بسرعة البرق.
(ث)
من الدبيبات، عبرنا وادي النانية، ثم منطقة الأخ يوسف عبد المنان (طيبة) وهي عدة قرى طيبة أولاد الرهيد، وطيبة أولاد حسن، وطيبة أولاد مالك، وطيبة أولاد عمر، وكلهن منطاق لقبيلة (خزام) وهي من أكبر القبائل العربية المتوزعة بين دارفور وكردفان، وكان لها سلطنة كبيرة في دارفور قبل خمسة قرون، ثم وصلنا منطقة (السنجكاية) التي وصفها القسيس نيوبلولد في القرن التاسع عشر في كتابه الشهير (عشر سنوات في أسر المهدي) وقال إنها (كالدوحة في قلب الصحراء).
لاحت منطقة أم علوان أو «أم عنوان» التي ظلت عصية على التمرد وصمدت في وجهه، لم نتوقف في مدينة الدلنج عبرنا من خلالها سريعاً، الطريق سالك حتى كادقلي، كانت منطقة(حجر جواد) عامرة بالمواطنين وحركة التجارة، يكفي أن هذه المنطقة من أبنائها الأخ الشهيد والقيادي الإسلامي الشاب الذي لم تنجب الحركة الإسلامية مثله موسى علي سليمان الذي استشهد في طائرة ربكونا مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وهي منطقة السياسي أزرق زكريا ومنير شيخ الدين وكل هؤلاء من رموز قبيلة النوبة الغلفان..
مع مناظر الطبيعة والسهول والمرتفعات الممتدة وصلنا منطقة (السماسم) التي سميت لكثرة إنتاج السمسم فيها، ومن أشهر أبنائها القائد المعروف في قوات الدفاع الشعبي (عبدالله كورتقيلا)، والمهندس كورتقيلا أبرز قادة الحركة الشعبية من أبناء النوبة ومن الذين رفضوا تمرد وحرب يوم 6/6/2011م ورفض الانضمام لأي حزب.
(ج)
في منطقة الكرقل وهي أكبر محطة في الطريق بين الدلنج وكادقلي وحولها الجبال وسلاسلها الممتدة، وجدنا سوقاً ضخماً على جانبي الطريق لبيع المنتجات الزراعية والغابية مثل التبلدي واللالوب والقضيم والنبق والكركدي والفول السوداني والسمسم، وهي منطقة الوزيرة بثينة جودة خليفة، ومنها قصدنا منطقة الدشول وجبالها، حتى وصلنا مناطق (كيقا) وقبيلة كيقا هي بطن من بطون النوبة الأجانج، ومنها (كيقا جرو، كيقا الخيل، كيقا تميرو) والنوبة كيقا هم الأكثر انصهاراً وتزاوجاً مع جيرانهم الحوازمة وبينهم أرحام ودم.
ودخلنا مناطق الحوازمة الرواوقة ووصلنا منطقة (الكويك) مقر نظارة الناظر الشهير (البشرى سومي) وكيل الإمام الهادي المهدي في الستينيات من القرن الماضي، وعضو الجمعية التأسيسية عام 1966م، وهي منطقة جميلة بجبالها وتعرجات طرقها وسفوحها الواسعة ومناظرها الخلابة، من أشهر أبنائها العقيد (م) الشفيع الفكي علي وتاور المأمون ويوسف سعيد الكو والعميد بخيت أب شوك خال السفير حاج ماجد سوار..
ومنها عبرنا الى (البرداب) التي تسكنها بطون قبائل الفلاتة المختلفة وهي مسقط رأس الوزير ورئيس ديوان المظالم القاضي مولانا أحمد أب زيد وزير الدولة بوزارة العدل السابق، ويذكر الناس هنا أن الصالحين من (فقرا) الفلاتة «حوطوا» المنطقة ستة عشر عاماً لم يدخلها التمرد أو يعتدي عليها. ويقال إن المتمردين عندما يقررون مهاجمتها لا يعثرون عليها أبداً وتضيع منهم وتغيب وسط الجبال والممرات الصخرية والغابات..
وكانت قرية الشعير آخر قرية نشاهدنا ولاحت مثل برق خاطف ونحن ندلف إلى مدينة كادقلي وتتوسط الطريق بين مطار المدينة وقلبها.
(ح)
كل هذه القرى كأننا أبصرناها من بين ضباب الحكايات والصور النمطية التي كانت تتحدث عن الأمن المفقود في جنوب كردفان والنزوح والرحيل، ولكننا وجدناها عامرة بأهلها لم تتخل عن سمتها وطبائعها وفضائلها وأخلاقها، مستغرقة في نضارتها وبهائنها، يعيش أهلها كما يشتهون، لا يشتكون من مأكل أو ملبس أو مشرب أو مسكن، يملأون ما بين الأرض والسماء بضحكاتهم الصافية، كأنهم عصافير تنقر بمناقيرها وجه الفضاء وخد الريح.. ويا لصفاء النسوة اللائي يبعن منتجاتهن الزراعية وهن يبتسم في طيب قلب لا يطمعن في بيع ولا يربحن إلا رضى المسافر ومن قبله رضى الرزاق ذو القوة المتين..