تحقيقات وتقارير

ملف خاص عن ذكرى رحيل “محمود عبد العزيز” الثالثة “عاصم البنا” يكشف أسرار عنه لأول مرة”

في مطلع التسعينات كنت وقتها طالباً وفي بداياتي في العزف على آلة الاورغن، وكان ابن عمي “الفاتح إدريس البنا” يكبرني بعامين وهو الوحيد في الأسرة الذي يقرب من عمري، كان من أصدقاء “محمود” المقربين ويسكن (المزاد) أيضاً بعد انتقالهم من (ود البنا)، أذكر أنه كان هناك حفل في بيت عمي “إدريس البنا” أحياه الفنان الواعد في وقتها “محمود عبد العزيز” والواعد “نادر خضر” والواعد “أباذر” والواعد “أسامة الشيخ” ومن خلفهم آلة الاورغن التي كانت بالنسبة لي في وقتها من ماركة (ياماها).. بدأ الحفل وأنا أتلصص واسترق السمع وكنت شغوفاً جداً بأصوات الموسيقى من خلفهم كانوا شباباً حياً بالعطاء شغوفاً بالأداء ومقتحماً آفاق المستقبل، لهم رؤية مستقبلية رغم ضيق الفرص واحتكار العمالقة لكل المستقبل والحاضر.
وبدأ الحفل بأغنية (البلوم في فرعو غنا) بصوت “محمود عبد العزيز” الذي جعل الكل ينصت له بإعجاب ودهشة.. وتمايل الجميع وسط تنافس المغنيين على إبهار الجميع بالأداء المتميز لها.
ولم تكن هناك فروض أو قيود على الإبداع وقتها، فكل من يغني ويجيد بل يبدع، وتاه الجميع في غياهب الطرب وكم كانت الآفاق تنظر إليهم بحذر.
أعجبني فيهم فيما بعد ذلك رغم المصاعب التي واجهت “محمود” تحديداً إصراره على فرض أسلوبه الغنائي الذي حورب بشدة في ذلك الوقت.. وكانت حرباً ضروساً يخاف ويلاتها الفرسان.
كيف وقف “محمود” أمام لجنة إجازة الأصوات..
بعد أعوام من تلك الحفلة الغنائية طالبت لجنة الأصوات من كل المغنيين العمل على إجازة أصواتهم، وفي اعتقادي كان واحداً من القرارات الكثيرة الخاطئة، حيث في نظري أن المجتمع هو من يجيز الصوت والعمل والفنان والشاعر والملحن واللوحة والزهور والعطور وكل شيء يرتبط بالإحساس، فهو أمر لا توجد به معايير أو مقاييس ثابتة.
وأول مرة التقت فيها بـ “محمود” بعد تلك الحفلة بلجنة الأصوات بالإذاعة في تاريخها.. وصادف أن يكون في مجموعتي أسماء كانت تثير الضجة في أوساط الشباب غير مرغوب فيها في دهاليز البيروقراطية.. بالنسبة لي كان الأمر عبارة عن تحدٍ أو أستطيع القول نوع من التسلية أو التجربة، فما كان مني إلا أن دفعت رسم مقابلة اللجنة وحدد لي يوم (الأربعاء) لتسمعني اللجنة.. وحضرت باكراً وفي يدي ذاك العود الذي استلفته من الجيران وكان أشبه بـ(النشاب) لارتفاع أوتاره عن الرقبة.. وحينما دخلت به الأستوديو أعتقد أنه إصابته صدمة حضارية من التكيف، فقرر عدم الاتزان وفلت من يدي وعصاني ولم أستطع دوزنته، وقد كنا نعتاد على بعضنا يومياً وربما كانت الرهبة والرجفة والخوف سبباً فيما أصابه من تفلت.
بمحض الصدفة في ذاك اليوم كانت من الأسماء التي ناداها منادي اللجنة “محمود عبد العزيز”.. و”حنان بلوبلو” وهي موجودة تشهد على ذلك.. ولسبب لا أعلمه قررت اللجنة إرجاء إجازة الأصوات إلى بعد 6 شهور.. ولم يدر أي منا السبب في ذلك، وكنا وقتها جالسين على الأرض في انتظار دورنا، ولم تعلم اللجنة الموقرة وقتها أنها أرجأت واحداً من أقوى أصوات السودان وأكثر المطربين قدرة على إحداث حراك فني مخيف يذهل المتابع.. ولم يخلو الأمر من محاولة لكبح جماح شيء لم يكن مفهوماً بالتأكيد في وقتها.. ولكنه مخيف.
تم إرجاع “محمود” و”حنان” في ذاك اليوم.. كنا نتقدم في الصف بإحباط لا يوصف مع تأكيد داخلي بالفشل..
خذلني عودي.. وكان هناك بعض أفراد الكورس حضروا مع شباب فناني دار الغناء الشعبي.. فقررت حينها التمسك بفرصتي فطلبت منهم مشكورين الوقوف إلى جانبي والغناء معي.. حيث كنت جاهزاً للغناء لـ”الكاشف” بالعود فعدت أدراجي إلى الحقيبة.. وغنيت (أذكريني يا حمامة) وكنت اعلم أنها تجاز بها الأصوات من أسرتي.. و(نغمات القمري).. لـ”عمر البنا”.. فأجازوا صوتي في وقتها.. على النسق الشعبي.. على ما أعتقد.. وتلك أيضاً واحدة من عقد الزمان غير المبررة.
الحوت أصبح قبطاناً
مرت السنوات ولم أعمل بالغناء بل واصلت في عزف آلة الاورغن مع شقيقي “حاتم” والعم “الأمين البنا”.. ولم أدر ماذا صار مع (الحوت) ذي النظرة الثاقبة، ثم تواريت عن الأنظار في “السعودية” وأقمت بها عدداً من السنوات وأنا أراقب في “محمود” وهو يقتحم آفاق الفن ويحشد في جمهوره العريض حشداً ليقول للدنيا كلها رغم عواتي الموج ها أنا ذا قررت اصطياد (الحوت) وأنا القبطان الذي يقود السفينة.. ترجلت اللجنة وبالفعل قاد “محمود” السفينة واصطاد (الحوت).. ولم يصطاده أحد بل ظل طليقاً يرفرف صوته في آفاق الدجى يسحر الألباب ويزف أشواق العشاق للعشاق، بل تفوق وصار من أمهر قباطنة البحار.. ومضى يؤسس لمدرسة غنائية خاصة اعتبرها فلتة تحدث كل مائة سنة.. ربما كان مؤشرها الأولي هو تلك النظرة الثاقبة وذاك الإصرار الإبداعي غير المذهل..
تفتحت بعده أذهان الشباب وتصور الكثيرين أنه أنموذج للتمسك بالقناعات.
في مجتمعنا بعض الضغوط والشعور بالخجل والتواضع بالفطرة.. تكبت التحرر وإطلاق العنان للمهارات والإبداع.. فلابد من تشجيع ورعاية المواهب وفتح المجال وجعل الحرية للناشئ في اختيار وخوض تجربته.. هذا ما علمه “محمود” للكبار أن الصوت يصل رغم قوة التيار.. ورغماً عن الإنكار.. بل يسيطر على البحار.. يصير من صار..
رحمة الله عليك أيها القبطان، كنت دوماً رائعاً ضاحكاً جميلاً في فنك وذوقك ومرحك.
أتمنى أن تواصل الأخت الأستاذة الاستعراضية الجميلة “حنان بلوبلو” في سرد تفاصيل ذاك اليوم (الأربعاء).. وأتمنى أن ندرك من تجربة العملاق “محمود” أنه لا يقهر المغني إلا إذا كان فاشلاً وقد استفدت من تجربته الكثير وهو الجيل الذي سبقنا مباشرة.. وضع لنا لبنة كيف نكون وكيف نؤمن بما نقدم ونقنع ونقتنع.
صار في الآفاق نجماً لا ينام وحوله أسرة تدعى (الحواتة) هم من شجعوه ووقفوا إلى جانبه بل ظلت تدمنه وتحبه.. هذه التجربة الفريدة في نظري رسالة لكل من يرى في نفسه التميز ولا يستطيع البوح به.. ولكن أعمل به لتكون محموداً.. وليتنا جميعاً كنا محموداً.. كم أعتز بأنني عدت من اغترابي وأراه مجدداً.
وكم يغمرني فخر وإعزاز بمشاركته في (أغاني وأغاني)،
وكم من “جمال” زارنا ومضى وكم من “نادر” يشق طريقه منذ ذاك الحين إلى آفاق أرحب ونلتقي مجدداً في (أغاني وأغاني) ليسكت اليراع.. ولكن لازال يغرد في دواخلنا وهمسات اللحن ترقص لها أحاسيسنا وكم كنت يا “نادر” جميلاً بشوشاً لطيفاً.
أخونا “أباذر” أخذت به الأقدار والغربة إلى “بريطانيا” ولم يعد حتى الآن.. أوصافه كالتالي.. جميل المعشر رقيق فنان بمعنى الكلمة.. ظل محتفياً بفنه محتفياً بذاته.. لا يبخل على من يزور “بريطانيا”.. ترجل عنوة عن السفينة.. أخونا دفعة الدراسة “أسامة الشيخ” عبر محيطات ملونة فلونها بجمال صوته وأدائه الرائع، ولكن حسومات الغربة يا “أسامة” غالية الثمن أتمنى عودتك فأنت نادر في زماننا هذا.
لهم الرحمة من فارقونا في الدنيا هم السابقون ونحن اللاحقون.. وأمنيتي أن يكتمل بقية ذاك العقد الفريد ليواصل مسيرة القبطان “محمود” الذي اصطاد (الحوت).

المجهر السياسي