حسين خوجلي

ما بين مدينة الجنينة والكارثة المجنونة مجرد خيط رفيع


< أفتقدت عشيرة ما بدارفور أحد رعاتها الذي وجد عليه الرحمة مقتولاً بعد أيام وقد وضع جثمانه (بعناية) وسط (الحشائش) قرب قرية لعشيرة أخرى باحترافية عالية وقصد معلوم وبانقضاء صدمة المشهد قامت عشيرته بتجهيز حملة مسلحة واكتسحت القرية المتهمة بقتله (اشتغال المحل بحركة المناسبة). < أحرقت القرية المتهمة دون تحقيق وفر سكانها واحتموا بعاصمة الولاية مدينة (الجنينة) الحدودية أنتظر المكلومون والمرتعدون خوفاً في عراء الله وسط موجة البرد القارس منتظرين الوالي أو نائبه للمواساة في الحدث الجلل والهجرة التي لا طمأنينة فيها ولا بعض رضى < تأخرت الاستجابة الانسانية للسلطة التي ظنت وهي غارقة في بيروقراطيتها أن الثكلى والخائفين يتوجب عليهم أن يقابلوا السكرتاريا ذات صباح عليل ويطلبوا موعداً بخطاب ودمغة تتقدمهم ابتسامتهم وعطرهم ليشكوا لسيادة الوالي حكاية الموت والحصار والقلق المفضي لأقرب مقبرة متاحة. < واضطر الناس حسب ثقافة المنطقة وحسب قتامة المظلمة والمتاح من أدوات التعبير أن يحرقوا مقر الحكومة وبيت الوالي لتعيش الجنينة تلك المدينة الجميلة واحدة من أقبح أيامها حيث زلزل الحدث الجلل سلامها الاجتماعي لسنوات وسنوات < وقد كشفت الحادثة عن مدى عمق الجرح الدارفوري الغائر الذي قطعاً لن تحله أبوجا ولا الدوحة ولا حتى عودة جبريل وعبد الواحد ومناوي لو عادوا لأن شركة العنف والثأرات والاستئصال المتأصلة في جراب القبلية وضعف الوازع الانساني والفرح الشيطاني في شهوة استئصال الآخر أكبر بكثير من المضادات الحيوية المخففة .. كل هذا قادر على استنساخ قيادات جديدة أكثر شراسة وعنفاً من الثلاثي المذكور أعلاه.. فالقيادات الجديدة للحرب بالامتيازات المتاحة والمتخيلة تنتظر غياب الآخرين لأي سبب لتمارس موهبة الصعود والركوب على صهوة الكارثة.. < والممولون في الداخل والخارج مستعدون أبداً للبيع على الآجل فما دام هنالك حرب فيعني أن هنالك سوقاً للسلاح وسوقاً للتهريب وسوقاً للنهب وسوقاً للنخاسة وسوقاً للمخدرات وسوقاً للمرتزقة وسوقاً لتبرير الصرف الأمريكي والأوربي على قضية اضطهاد الانسان لأخيه الانسان.. ذلك التبرير المزيف الذي يعطي للمؤسسات الحزبية والشركات الغربية حق تملك المليارات وفي أعقابها يمكن أن تصرف على الضحايا والعملاء حفنة من الدولارات لا تكفي حتى لمراسم الدفن وثمن إعلان الغياب القسري.. < حادثة الجنينة أثبتت قابلية تلك القبائل للاستدراج القاتل من قبل أعدائهم بقتل فرد أو حصان أو حرق مزرعة أو اختطاف طفل منسي في زفة اللامبالاة.. < وبعدها يتم استئجار نائحة أو حكامة أو أمير مزيف أو سياسي موتور ليطلق صرخة الفتنة الأولى لتتحرك خيل داحس والغبراء وجمال المرتزقة الجدد لتقضي على الأخضر واليابس القرى الآمنة والطفولة البريئة والكتاتيب والأحلام الفطرية والمزارع المغسولة بعرق العافية المحدودة وبيادر الحلم بالعودة . < ما حدث في (الجنينة) يؤكد مقدرة محركي الخيوط لأراجوز الكارثة في مسرح اللامعقول أن يرجعوا بالأزمة بأقل جهد للمربع الأول وهاهم يفعلون.. < وما حدث في الجنينة أيضاً يؤكد عجز أمراء القبائل ونخبها ومثقفيها عن إدارة أي حوار مثمر ومجدي مع أهاليهم ليس من أجل قضايا التنمية أو قضايا الصحة والتعليم والسلام الاجتماعي والكرامة في حدها الأدنى.. بل هو للأسف من عجزهم حتى في أن يحتفظوا بأهاليهم في مربع (الأحياء) < الأحياء الذين يملكون فقط حق الشهيق والزفير دون أن يدفعوا على الهواء جزية أو مكوس أو ضريبة. < إنه عجزهم وعجزنا الذي أعطى الحق للمؤامرة أو اللوثة التي تمشي على قدمين مجاناً بأن تقتلع لافتة مدينة الجنينة لتكتب عليها بالخط العريض لافتة المأساة (المجنونة) وأنى لها أن تستعيد رشدها والطبيب المداويا صاحب أشهر ملف بالتيجاني الماحي.