ذكرى الثورة… بين خطاب السيسي و«استقرار» مبارك
لم تخل الذكرى الخامسة للثورة في مصر من ارهاصات ومشاهد وتناقضات تستوجب التوقف والتأمل في ابعادها، دون الوقوع في فخ القراءات المتعجلة بغية استصدار احكام لا تليق بتعقيد المشهد.
وعلى الرغم من مرور خمس سنوات، اثبتت الثورة امس انها مازالت تستأثر بأفئدة المصريين، وان ذكرياتها واهدافها وصورها المبهرة مازالت حاضرة في مخيلاتهم، بمن في ذلك من يشكون تفاقم معاناتهم بعد فشلها المروع في الجانب الاقتصادي بشكل خاص. والاهم انها اثبتت انها مازالت ثورة الشعب الذي قام بها، ودفع ثمنها الباهظ من دماء انبل ابنائه واغلاهم، وليست ثورة من ارادوا استخدامها ليتخلصوا من الرئيس المخلوع وعصابته، وسيناريو التوريث، على ان يبقى النظام بكل مساوئه، ولا ثورة من ارادوا ان يستغلوها لتحقيق اجندات خاصة.
اما الحشود الامنية والعسكرية غير المسبوقة التي حولت القاهرة والمدن الكبرى الى «ثكنات عسكرية»، فقد استهدفت ما هو ابعد مما روجه النظام من «مواجهة عمليات ارهابية محتملة»، اذ انها سعت عمليا الى خلق حالة من الردع النفسي ضد خيار التظاهر حتى اذا كان سلميا. ولا يعني هذا انكار وجود تهديدات ارهابية حقيقية، الا ان المبالغة في خطرها لتبرير الاستعانة بكل هذه الحشود تتناقض بشكل واضح مع الادعاء بحدوث تحسن كبير في الحالة الامنية. وعلى اي فان النظام سيجد صعوبة كبيرة في اعتبار ان عدم خروج مظاهرات واسعة في ذكرى الثورة امس يعني وجود حالة من الاستقرار في البلاد.
بل لقد اعترف النظام عمليا امس بان الشارع في مصر مازال الطرف الاقوى في المعادلة، وليست اي مؤسسة او حزب او جماعة، وان الخامس والعشرين من يناير، بانتظار ان يستكمل استحقاقاته، سيظل يشكل هاجسا ومصدر قلق وجودي لمن يحاولون الالتفاف عليه.
اما على المستوى السياسي، فان مأزق النظام لا يقل عمقا. اذ انه لم يستطع الا ان يجدد اعترافه بالثورة كمصدر للشرعية، في سعي واضح للوقوف ولو ظاهريا في الجانب الصحيح من خارطة القوى، وهكذا فعلت قوى سياسية وبعض القنوات الفضائية، الا ان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي المشيد بالثورة سرعان، ما قوضه انكشاف اصراره على التحالف مع بعض رموز الفلول الذين ثار الشعب ضدهم قبل خمس سنوات، اذ لم يتورعوا عن الخروج بعد ساعات قليلة ليكيلوا الاهانات للثورة، والشتائم لنشطائها القابعين خلف القضبان والعاجزين عن الدفاع عن انفسهم، بل والاشادة بمبارك وعهده في استفزاز مروع لمشاعر الملايين. حتى ان اولئك الذين يؤيدون النظام ويظهرون العداء لجماعة الاخوان اصبحوا يضيقون علنا بهذه اللغة العدمية والخطاب الاقصائي الذي لا يرضى الا بتصفية الآخر، ومن ثم فانه حتما لا يصلح لاقامة نظام مستقر قابل للبقاء.
ولتعميق الجرح، سادت مقاربة اعلامية رسمية تعتبر ان الشهداء انما هم شهداء الجيش والشرطة فقط، اما من سقطوا في الميدان، فلا نصيب لهم غير التجاهل، ان نجوا من الاتهامات التي تعتبرهم جزءا من «مؤامرة ضد الوطن».
ومن اللافت ان يتحدث الرئيس السيسي عن الثورة دونما ذكر لاي برنامج حقيقي لاستكمال اهدافها المعروفة، وخاصة الحرية والعدالة الاجتماعية، بل انه لم يتردد في الاشادة بما اسماه «الاعلام الحر» فيما يقبع عشرات الصحافيين والاعلاميين في السجون.
اما اصحاب بعض الابواق الاعلامية الذين بقوا مؤيدين للرئيس المخلوع حتى اللحظات الاخيرة، فقد اكتفوا بالدعوة الى غلق ملف الثورة باعتبار انها «نجحت وخلصت» مع تنحي مبارك عن الحكم. لكن المصريين الذين فاجأوا العالم من قبل بالثورة، مازالوا يحتفظون بالكلمة الاخيرة في تحديد مسارها، وربما لا يريد كثيرون منهم «ثورة جديدة» بالضرورة، الا انهم يريدون حتما «تغييرات ثورية» لا تستثني تركيبة النظام، لتسمح لهم بجني ثمار تضحياتهم ومعاناتهم خلال السنوات الماضية.
اما النظام المرتبك فلعله يقترب ولو ببطء من ادراك حقيقة ان الحشود الامنية وحدها لا يمكن ان تحقق الاستقرار المنشود، الا اذا كان المقصود هنا نوع «الاستقرار» الذي شهدته اعوام مبارك الاخيرة.
رأي القدس