تجلّت خطورتها بعد زياة أسعار الغاز تعديل المادة (182).. “الشغب” المسيل للدموع
قوى سياسية: تعديل المادة يكرس سياسة تكميم الأفواه وقمع المتظاهرين السلميين
النائب البرلماني مبارك عباس: سنعمل على إسقاط التعديل عند استئناف عمل المجلس
بارود صندل: المُشرِّع ارتكب خطأ فنياً فادحاً بإدخال الشغب في المادة المتعلقة بالإتلاف
حسن الساعوري: من المستحيل قفل باب التظاهر أمام السودانيين لأنه ثقافة سودانية بامتياز
فجأة ودون مقدمات، أجاز البرلمان تعديلات على القانون الجنائي دفعت بمقترحها وزارة العدل وانحصرت في مادتين فقط، إحداهما غلظت من العقوبة على مثيري الشغب من المتظاهرين في الاحتجاجات، وهذا التعديل اعتبرته قوى سياسة متعمداً من جانب الحزب الحاكم والقصد منه قفل الباب أمام أي تحركات محتملة تهدف للخروج الى الشارع، فيما يرى الجانب الحكومي أن الهدف من تعديلات عقوبات المادة (182) في القانون الجنائي الحفاظ على الممتلكات العامة، أما القانونيون فقد كشفوا عن تجاوز فني صاحب تعديل المادة.
أغلبية رغم الاحتجاج
قبل أيام معدودة صادق البرلمان بأغلبية لافتة، على تعديلات مفاجئة أدخلت على القانون الجنائي لسنة 1991 بعد أن أودعت وزارة العدل مشروع التعديل منضدة البرلمان، ونصت التعديلات على معاقبة مثيري الشغب حال ثبوت إتلاف الممتلكات بالسجن لخمس سنوات، وأودعت التعديلات منضدة البرلمان في اليوم الأخير لنهاية دورة الانعقاد الثانية وسط جدل واحتجاج النواب، وأُجري تعديل على المادة 57 من القانون الجنائي، بإضافة نص جديد حمل عنوان “الإضرار بالاقتصاد الوطني” وتقرأ على النحو التالي: “إن كل من يهرب أو ينقل أي بضائع أو سلع ممنوعة أو مقيدة بقانون أو يقوم بتصديرها أو يشرع في ذلك بقصد المنع والبيع والتحايل أو بتهريبها خارج السودان يعتبر مرتكباً جريمة الإضرار بالاقتصاد الوطني). وحدد التعديل العقوبة بالسجن مدة لا تتجاوز 10 سنوات أو بالغرامة ومصادرة الوسائل المستخدمة في ارتكاب الجريمة. ولم تشهد إجازة هذه المادة جدلاً، وذلك لأهميتها، إلا أن تعديلا آخر أدخل على المادة 182 من القانون الجنائي أثار حفيظة الأعضاء ومن ثم القوى السياسية والقانونيين، حيث أشارت إلى إلغاء البندين 1و3، واعتماد البند 182-2 والتي تقول: “من يرتكب جريمة الإتلاف الجنائي يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز 5 سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً، وإذا حدث الإتلاف أثناء الشغب “باستخدام الإحراق أو الإغراق أو المواد الناسفة أو السامة في مرفق عام أو خاص يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز 10 سنوات وبالغرامة بما لا يقل عن قيمة التلف.
مجلس الوزراء والتشديد
وقال وزير العدل عوض الحسن النور إن الوزارة اقترحت أن تكون عقوبة إثارة الشغب عامين، إلا أن مجلس الوزراء رأى رفعها لعشرة أعوام، وانقسم النواب ما بين مؤيد للعقوبات ومعترض عليها. ونبه وزير العدل السابق النائب البرلماني عبد الباسط سبدرات إلى أن معظم الذين يقومون بأعمال الشغب هم من الطلاب وأن تشديد العقوبات حسبما تمت إجازتها من شأنه الإضرار بمستقبل الطلاب.
انتقاد واحتجاج
من ناحيته انتقد العضو البرلماني الدكتور عبد الجليل محمود عجبين التعديلات الأخيرة على القانون الجنائي خاصة المادة (182) المتعلقة بالإتلاف الجنائي وإثارة الشغب، مشيراً الى أن هذه المادة ضد مصلحة المواطن، متوقعاً أن تقدم الحكومة خلال الأيام المقبلة على اتخاذ قرارات يمكن أن تؤدي الى خروج المواطنين إلي الشارع، وقال إن التعديلات مؤشر لزيادة متوقعة في أسعار المحروقات والقمح، وهو ما حدث فعلاً، فقد تمت زيادة أسعار الغاز بنسبة 300% فأصبح سعر الأنبوبة 75 جنيهاً بعدما كان 25 جنيهاً. مضيفاً: إن العجلة في تعديل وإجازة المادة كانت تشير إلى أنها شيء ما يتم تدبيره في الخفاء، وهو ما حدث فعلاً، خاصة أن المادة المثيرة للجدل أجيزت في فترة لا تتجاوز الساعة الواحدة، حيث تم إيداع التعديل في 18 نياير وتداولته لجنة التشريع اليوم التالي، وفي يوم 21 يناير أجيز في جلسة واحدة في مرحلة السمات العامة ومرحلة القراءة الأولى والثانية والأخيرة في أقل من ساعة. وتساءل عجبين عن كيفية تطبيق العقوبة على الطلاب خاصة وأنهم أكثر الفئات خروجاً للشارع، مشيراً إلى أن تطبيق عقوبتي الخمس والعشر سنوات تعتبر قاسية على الطلاب ذلك لأنها تحرمهم من مواصلة الدراسة، وأضاف:” كيف نبعد طالباً من الدراسة لنجعله لصيقاً بمجتمع النزلاء”.
رفض سياسي
أما تحالف قوى الإجماع الوطني المعارض فقد اعتبر التعديلات التي أقرها البرلمان بسجن مثيري الشغب خمس سنوات، تستهدف تخويف المعارضين من المشاركة في الاحتجاجات، وقال التحالف في بيان له أن البرلمان أقدم على إجراء تعديلات في القانون الجنائي أقرت عقوبات لمثيري الشغب خلال المظاهرات تصل الى السجن خمس سنوات، وأضاف البيان: هذا يعني أن الاحتجاجات الشعبية تصبح عقوبتها خمس سنوات بدلاً من ستة أشهر علاوة على ملحقات أخرى لتبلغ العقوبة عشر سنوات.
ويرى سياسيون أن توقيت تعديل العقوبات لم يأت ملائماً وأنه يرسل رسالة سالبة للجميع مفادها أن المؤتمر الوطني يتحسب لكل الظروف خاصة بعد ارتفاع معدلات الغبن الشعبي من الأزمة الاقتصادية، وفي هذا الصدد يشير عضو البرلمان المستقل مبارك النور إلى أن إجازة تعديل المادة 182 خطأ من ناحية سياسية، وقال لـ(الصيحة) إنه لو كان مشاركاً في الجلسة لسجل اعتراضاً على إجازتها وذلك لخطورتها كما يؤكد، مشددًا على أن من حق الشعب دستورياً وقانونياً التظاهر، وأنه ليس من العدل في شيء أن يتم إلقاء القبض على متظاهر خرج سلمياً فيما عمد غيره إلى التخريب، ويكشف النور عن مسعى يقوده مع عدد من النواب لإسقاط التعديلات في الدورة القادمة للبرلمان وذلك لخطورتها على الواقع السياسي كما أشار.
جدل قانوني
وبعيدًا عن الجدل السياسي الذي أثاره تعديل المادة 182 فإن جدلاً آخر يدور وسط القانونيين الذين أكدوا وجود خلل فني صاحب التعديل الأخير، ومن هؤلاء القانوني بارود صندل الذي تساءل في بداية حديثه عن دواعي إدخال الشغب في المادة 182 المتعلقة بالإتلاف، وقال في حديثه لـ(الصيحة) إن هذا يتعارض مع مادة أخرى وباب كامل للجرائم المتعلقة بالطمأنينة العامة، ويشير الى أن المادة 167 من هذا الباب تتحدث عن الشغب والتي يوضح نصها: يُعد مرتكب جريمة الشغب من يشارك في أي تجمهر من خمسة أشخاص فأكثر متى استعمل التجمهر القوة أو الإرهاب أو العنف، ومتى كان القصد الغالب فيه مقاومة تنفيذ أحكام أو أي إجراء قانوني، بالإضافة إلى ارتكاب جريمة الإتلاف الجنائي أو التعدي أو أي جريمة أخرى، ومباشرة أي حق قائم أو مدعى به بطريقة يحتمل أن تؤدي إلى الإخلال بالسلامة العامة، وإرغام أي شخص ليفعل ما لا يلزمه القانون”.
وأشار صندل الى أن هذه هي المادة التي تعرف الشغب وأن عقبوتها لا تتجاوز السجن لمدة ستة أشهر أو الغرامة أو الجلد ما لا يتجاوز عشرين جلدة، وقال إن ذات المادة أشارت إلى أن المتهم بالشغب إذا كان يحمل سلاحاً أو ما يسبب الموت والأذى الجسيم يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز السنة أو الغرامة أو العقوبتين معاً، مؤكداً أن هذا هو تعريف مادة الشغب وعقوبتها حسبما جاء في القانون الجنائي، وقال إن التعديل جزء ورد في مادة الشغب، وأضاف: المادة 182 مختصة بالإتلاف، وهذا يعني أنه تم التعديل في هذه المادة فيما لم يتم تعديل العقوبة في المادة الأساسية ويفترض أن يتم التعديل في المادة الأساسية لأن الإتلاف الجنائي جزء من نتائج الشغب، واعتبر بارود التعديل الذي تم في البرلمان للمادة 182 بمثابة النقطة السوداء في التاريخ القانوني للبلاد ولوزير العدل، ورأى أن المادة التي تمت إجازتها شهدت إقحاماً للشغب، وتساءل عن مصير المادة 167 المتعلقة بالشغب، ورأى أن ما حدث في البرلمان إشارة الى تخوف الحكومة من حدوث مظاهرات، وأنها استباقاً لوقوعها سارعت الى إجراء التعديلات الأخيرة لتدخل الخوف في نفوس من يعتزمون التظاهر ضدها وهو أقرب للتحذير والتهديد، وهو ما أكده حدوث زيادة كبيرة وغير متوقعة في أسعار الغاز.
ومضى بارود صندل إلى أبعد من ذلك مؤكداً وجود خلل واضح، وأضاف: الأمر المثير للدهشة أن الأوضاع في البلاد خاصة السياسية تمضي في انفراج والحوار الوطني يمضي بصورة طيبة وربما يصل الجميع الى تفاهمات وهذا يعني أنه لا يوجد مبرر موضوعي لإجراء تعديل في القانون الجنائي مثير للجدل ويعطي انطباعاً مختلفاً تماماً، وبكل صدق لا أعرف كيف تفكر هذه الحكومة، وهنا أشير الى أن إخضاع القانون للعمل السياسي يفقد موضوعيته وقوته وهيبته، وما حدث يعطي إشارة سلبية للمتحاورين.
تجاوز صريح
ويتفق القانوني آدم أبكر في حديث لـ(الصيحة) مع المحامي بارود صندل، ويشير الى أن المادة 182 حينما وضعها المشرع في نصوص القانون الجنائي كانت متعلقة بالإتلاف فقط وأن هذا الأمر واضح كالشمس في رابعة النهار ولا جدال حوله حسبما أشار، ويقول إن هذا الأمر لا يحتاج الى شرح أو خلاف، موضحاً أن مواد الشغب منفصلة تماماً ولا علاقة لها بالإتلاف “لا من قريب أو بعيد” حسمبا أكد، معتبرا التعديل الذي تم إدخاله الى المادة 182 مجرد تحايل على القانون لأن الفرق بين المادة 182 و167 كبير كما أشار، وقال إن من حق المشرع تعديل المادة أو تغييرها تماماً، ولكن ليس تحميلها معنى أكبر، وقال إن المادة 182 متعلقة بالإتلاف وإن التفسير الجديد للمادة حمل مادتين حيث تمت إضافة مادة الى أخرى دون أن يلغي التي تمت إضافتها، معتبراً في هذا مخالفة قانونية واضحة، ويرى أن ما تم قد يدخل إشكاليات في الممارسة العملية ومكونات المادة الإجرامية وعناصرها.
تعديلات موضوعية
من ناحيته يؤكد المحلل السياسي البروفسير حسن الساعوري استحالة قفل باب التظاهر أمام السودانيين، مشدداً في حديثه مع (الصيحة) على أن التظاهر ثقافة سودانية بامتياز ولا يمكن أن تنتهي أو تتم مصادرتها وإلغاء وجودها، ويقول إن التعديل الأخير في المادة 182 لا يستهدف المتظاهر بل الذي يجنح إلى التخريب والتلف، ويشير إلى وجود أبرياء تتعرض ممتلكاتهم للتلف والتخريب في حالة حدوث تظاهرات، ويرى الساعوري أن التشديد في العقوبة يستهدف الفئات التي توقع أضراراً كبيرة على الممتلكات الخاصة والعامة، ويلفت إلى أهمية أن تأتي العقوبة على قدر الضرر والخسائر التي يوقعها المتظاهر على الممتلكات العامة والخاصة، مشيرًا الى أن التظاهر حق كفله الدستور ولا يمكن أن يتم إلغاؤه بمجرد تعديل مادة في القانون، إلا أنه يعتقد بأهمية وجود تشديد على المندسين في المظاهرات الذين يخرجونها عن مسارها السلمي إلى العنف والتخريب، وأضاف: لا يمكن في هذه الحالة معاقبة المسؤول عن المظاهرة إلا في حالة أن يكون هو الذي حرض على إتلاف الممتلكات، ويتفق الساعوري مع القانونيين الذين طالبوا بإيضاح إجرائي أكثر شمولاً للتعديل الذي طال المادة 182 حتى لا يحدث تضارب في فهمها بين القضاة والمحامين.
تحقيق: صديق رمضان
صحيفة الصيحة