مقالات متنوعة

طه النعمان : خاب «المُطبّعون» ولو نجحوا..!

* يبدو أن الظاهرة الأهم – حتى لا نقول النتيجة- في حوار قاعة الصداقة.. حتى الآن على الأقل.. هي ما أسميه تطبيع «التطبيع» مع إسرائيل.. بمعنى جعل «الدعوة» إلى إقامة «علاقات طبيعية» وليست فقط علاقات «دبلوماسية واعتراف رسمي» أمراً طبيعياً.. وهو ما تم التعارف على رفضه.. بين العرب التي اضطرت حكوماتهم إلى الاعتراف بإسرائيل عقب حرب أكتوبر 1973، كمصر والأردن.. بـ «مقاومة التطبيع».. لما يترتب على ذلك من شرور ومخاطر حتى على وجود تلك الدول في حد ذاتها.. وذلك استناداً إلى أبحاث سياسية ودراسات إستراتيجية معمقة في معاني زراعة الدولة العبرية الصهيونية في قلب المنطقة العربية.. ومترتبات تلك الزراعة على الأرض والأمة تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً.
* واقعة مهمة تستحق التأمل.. بمنطق التاريخ وليس بمنظور الفقه الديني.. رافقت لحظة وصول النبي الأعظم محمد، عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة مهاجراً من مكة.. روتها السيدة صفية بنت حُيَيْ بن أخطب التي انضمت إلى فريق أمهات المؤمنين إثر سبيها في «غزوة خيبر» واصطفاها الرسول «صلى الله عليه وسلم» لنفسه وبنى بها بعد مقتل والدها وقومها عند حصن «بني الحقيق» في السنة السابعة للهجرة.. فقد حدثت صفية.. بحسب ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق فقالت: كنت أحبُّ ولد أبي إليه وإلى عمي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قَدِمَ رسول الله «صلى الله عليه وسلم» إلى المدينة ونزل في قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حُيَيْ بن أخطب وعمي ياسر بن أخطب مُغْسلين – أي في تمام نظافتهما وأناقتهما – فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس.. وأضافت صفية، وهذا هو الشاهد: فأتيا كالّيْن – من الكلل والإنهاك- كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى.. فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ أحدٌ منهما، مع ما بهما من الغم.. وقالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟.. قال: عداوته والله ما بقيت.. «ابن هشام ج 2 ص 126).
* هذه الواقعة التاريخية، المنسوبة لأم المؤمنين صفية بنت الأكابر في آل بني الحقيق من يهود خيبر ويثرب، تؤكد على عداوة اليهود.. حتى يهود العرب المقيمين بين ظهرانيهم للدين الجديد ونبيه.. لأنهم رأوا فيها تقويضاً لمجدهم وعزهم المادي الذي بنوه على مقولة فاسدة بأنهم «شعب الله المختار».. هذه مجرد عينة تاريخية من سلوك اليهود تجاه العرب ونبيهم الذي أرسل للناس كافة منذ البداية.
* لكن دعونا في ما نحن فيه هنا.. في الخرطوم.. التي تشهد تصاعد الدعوة الفاجرة إلى «التطبيع».. وليس فقط إقامة علاقات دبلوماسية معها.. لدرجة جعلت لسان حال بعضهم أو بعضهن يقول بجراءة وقحة: «نعم، أنا صديق لإسرائيل.. دي فيها حاجة دي»!!
اقرأ.. كفاك الله شر التطبيع والمطبعين.. هذا الخبر المنسوب للجنة العلاقات الخارجية بالحوار الوطني وفق ما نقلته «السوداني- الثلاثاء 19 يناير»: أنقسم أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بالحوار الوطني حول مقترح التطبيع مع إسرائيل إلى أربعة مواقف.. منهم من طالب بإقامة علاقة معها باعتبارها دولة من الدول الموجودة في العالم، ومنهم من طالب بأن تكون هناك علاقة ولكن بشروط، والثالث طالب بالتطبيع، والرأي الأخير رفض إقامة أية علاقة معها.. عضو اللجنة إبراهيم سليمان أشار إلى أن موقف حزب المؤتمر الوطني «غير واضح ومباشر» حيث قال الحزب في ورقته التي دفع بها إنه يرغب في إقامة علاقات جيدة مع «كل الدول».. ونقول: عدم الاستثناء لإسرائيل هنا لا يعني سوى أن إقامة علاقات جيدة قد تشمل الدولة العبرية.. السيد إبراهيم يوضح أن الذين يطالبون بالتطبيع مع إسرائيل موقفهم ناتج من واقع «مصلحة السودان»، مشيراً إلى أن أمريكا وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، وإذا كانت الحكومة تشدد على إقامة علاقة مع أمريكا فلماذا لا تقيم علاقات مع إسرائيل؟.. المهم أن الرجل لم يستبعد في ذات التصريح أن خيار الرفض ضعيف جداً، وتوقع أن يكون التطبيع مع إسرائيل من ضمن التوصيات النهائية للحوار، وإذا تم ذلك سيضمن في الدستور!
٭ إنتهينا في الحلقة الماضية من هذه «الإضاءة» إلى ترجيح لجنة العلاقات الخارجية أن يكون «التطبيع» مع إسرائيل من بين التوصيات النهائية لمخرجات الحوار الوطني الدائر بقاعة الصداقة، وأن حزب المؤتمر الوطني الحاكم قدم ورقة «رمادية»، تطالب بإقامة علاقات جيدة (مع كل الدول) دون استثناء، بما يعني من حيث المبدأ «عدم الممانعة» من «التطبيع».
٭ أثناء ذلك أريق حبر كثير.. من الزملاء كتاب الرأي.. خلال الاسبوع الماضي في شأن التطبيع، استحساناً مرة، و«مسحاً للوبر فوق الدبر» حيناً، ورفضاً موضوعياً في أحيان أخرى.. بل وتنجيماً وتبريراً وتغبيشاً للرؤى حول العبارة «الغامضة» التي أدلى بها وزير الخارجية إبراهيم غندور.. وهو يجيب على إقتراح الإسلاموي العتيد عبد الله دينق الوزير السوداني- السابق- ثم الجنوب سوداني حاضراً، في ندوة محضورة بأن «أمريكا لن تصالح السوداني إلا بعد التطبيع مع إسرائيل، وعلى السودان أن يدرس هذا».. وهو رد مختصر، ربما أحيط بغموض مقصود، يقول «العايز يدرس.. يدرس يا عبد الله».. وهو ما يصب بشكل أو آخر، في ذات المعنى الذي أسلفنا الإشارة إليه.. وهو تطبيع «التطبيع».. أي جعل الدعوة إليه أمراً مباحاً ومتاحاً وضمن أجندة الحوار التي قد تجد طريقها إلى الدستور.
٭ مرة أخرى نؤكد على الفارق النوعي بين «التطبيع».. و«إقامة علاقات دبلوماسية رسمية» بين الحكومات.. وإن كانت المخاطر والشرور متحققة ومنتظرة في الحالتين، ولكن يبقى «التطبيع» في بعده الشعبي والدعوة اليه باعتباره «عادي بالزبادي» هو الخطر الماحق بكل ما ينطوي عليه من غباء متلفع بالفجور..
٭ ومن بين التبريرات الفطيرة لـ «التطبيع».. المستندة إلى تحليلات مستعجلة لواقع التردي والتراجع الذي تشهده المنطقة العربية.. وكأن عجلة التاريخ قد بلغت نهايتها في الدوران.. ذلك القول الذي ذهب إليه بعضهم بأن «المصير العربي المشترك، لم يعد مشتركاً».. وأن «القضية المركزية» التي هي القضية الفلسطينية، لم تعد مركزية.. وإن قضيتنا مع دولة اسرائيل كانت تنحصر في أن اسرائيل تسعى لتفتيت السودان وتفكيكه، وأن من بني جلدتنا من تكفل بهذا الدور وفاق إسرائيل وأمريكا في إنجاز المهمة.. فعليه يصبح لا ضير من حيث المبدأ في مناقشة تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
٭ مثل هذه التبريرات.. على الذكاء المخاتل و«الحرفنة» في صياغتها.. تبريرات تنطلق في جوهرها من مفهوم ساذج لحقائق الصراع العربي الإسرائيلي.. فهي تقول ببساطة إنه إذا كان العرب الأقرب إلى إسرائيل ممثلين في بعض دول المواجهة قد «تصالحوا» مع إسرائيل وعقدوا معها معاهدات السلام، وإذا كان التضامن العربي المنشود قد آل إلى التمزق والتناحر أحياناً، فما بالنا نحن الأبعدين من الانغماس في خصومة مع إسرائيل تجر علينا الويلات وتعيق علاقتنا مع الولايات المتحدة التي (ربما) تتعطف علينا عندما (نُطبّع) مع إسرائيل وتصنفنا دولة صديقة وترفع عنا العقوبات والمقاطعات.. أو كما قال عبد الله دينق.
٭ شواهد التاريخ.. في هذا الظن الساذج والخائب عديدة.. وأقرب وأهم مثال للأذهان هو حالة (سيد شهداء فلسطين) ياسر عرفات أبو عمار.. فأبوعمار وبعد أن أفنى زهرة شبابه وجل عمره في مناطحة دولة الصهاينة.. أحفاد حيُيْ بن أخطب بعد لقائه النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة وقسمه «بعدواته ما بقى حياً» كما سبقت الإشارة.. أبو عمار هذا ذهب إلى الصلح مع إسرائيل عبر اتفاقية «أوسلو» المنكودة.. استجابة للضغوط الدولية من جهة، ولتأسيس مشروع دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة ولمّ شعت شعبه من الشتات.. علها تكون مقدمة لتحرير كامل الأرض المحتلة من البحر إلى النهر مع مقبل الأيام والأجيال.. ولأن إسرائيل لا تعوزها القدرة على قراءة النوايا، ورأت أن الرجل لايزال مستمسكاً بـ «القدس الشريف» عاصمة لدولته المستقلة ولم يردع شعبه عن فعل المقاومة.. حاصرته بالمدفعية الثقيلة والدبابات في «مبنى المقاطعة» مقر سلطته، بل ودسّت له السُم الزعاف، كما فعلت زينب بنت الحارث إمرأة سلام بن مشكم بالشاة المسمومة مع النبي الأعظم (ص)… فقضى نحبه مسموماً بآخر ما أنتجته تكنولوجيا الاشعاعات الذرية كما أثبتت معامل الفحص النووي الفرنسية بعد نبش جثمان القائد.
٭انتهينا في الحلقة الماضية من هذه «الإضاءة» بتذكير دعاة التطبيع بالمصير الذي انتهى اليه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات الذي استشهد مسموماً بالاشعاعات النووية إثر توقعه إتفاقية أوسلو من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة بعاصمتها «القدس الشريف»، بعد أن قرأت إسرائيل نيته بجعل الدولة المستقلة مقدمة لتحرير الأرض من البحر إلى النهر.
٭ قطعاً، لسنا بحاجة للخوض في تفاصيل نشأة الدولة العبرية على أرض فلسطين، فهي معلومة لدى الكافة قبل العام 1948 تاريخ الإعلان الأممي والتقسيم.. ولكن ما يهمنا هو التأكيد على أن تلك «الدويلة» قد صارت مع مرور الأيام «دولة كبرى» بمعنى الكلمة، ليس بمساحتها أو مواردها أو عدد سكانها ولكن بتأثيرها الفاعل في السياسة الدولية استناداً إلى المخطط الصهيوني بالغ الإحكام.. الذي جعل منها ومن جماعات الضغط الموالية لها وجوداً قوياً ومؤثراً في كل مراكز صنع القرار في أوربا الغريبة والشرقية وأمريكا وإيران وحتى روسيا التي لم تستطع مقاومة الهجرة لامدادها بالبشر.. وفي هذا الصدد يحسن بنا التذكير بأن الأمم المتحدة لم تتمكن حتى اليوم من إجبار الدولة العبرية على تنفيذ القرارات الدولية التي يتخذها مجلس الأمن، هذا غير العشرات من القرارات والإدانات المستحقة التي يتم اسقاطها بفيتو الحلفاء الأمريكيين والغربيين نزولاً عن رغبة هذه «الدولة الأعظم».
٭ العلاقة الأمريكية- الاسرائيلية هي المثال الأسطع والأوضح لهذه الهيمنة الصهيونية على صناعة القرار في الدول الكبرى.. مثال أضئنا عليه منذ أسابيع قليلة مضت بعرض محاضرة الصحافي الإسرائيليء الشهير «جدعون ليفي» الذي خاطب جمعاً من النخبة السياسية والإعلامية الأمريكية في واشنطن حول حقائق هذه العلاقة الفاسدة بين واشنطن وتل أبيب، التي وصفها بـ «التحالف الشيطاني» الذي يجعل من إسرائيل صديقاً لا يؤاخذ ولا يراجع في ما يفعل من جرائم على أي نحو أتت.. وشبهها بعلاقة رجل جاهل مع ابنه مدمن المخدرات الذي يتعاطف معه فيقدم له المال ليواصل التعاطي فيدمر ذاته ويؤذي المجتمع من حوله.. عوضاً عن أن يقدم له النصيحة ويأخذه للمستشفى لتلقي العلاج.
٭ وإذا ما عدنا لموضوعنا الأساس وهو خيبة الدعوة المتصاعدة لـ «التطبيع» مع إسرائيل، بإعتبار أن التطبيع مع إسرائيل هو الطريق السالك إلى قلب واشنطن.. كما زعم السيد عبد الله دينق، وكما رجحت مناقشات لجنة العلاقات الخارجية في اجتماعات الحوار الوطني بحسب السيد إبراهيم سليمان، وكما ألمح المؤتمر الوطني في ورقته إلى تلك اللجنة القائلة بإقامة علاقات جيدة مع «كل الدول» ولم تستن إسرائيل.. فيجدر بنا أن نذكّر هؤلاء جميعاً إن التطبيع بل الصداقة والتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة نفسها لم يمنع إسرائيل من التجسس عليها، فكم من جاسوس إسرائيلي ضبط متلبساً بمحاولة سرقة إسرار التكنولوجيا الأمريكية لصالح إسرائيل.. أخرها قصة الجاسوس «جونتان بولارد» الذي أفرج عنه أواخر العام المنصرم بعد أن قضى محكوميته .. فالصهيونية العالمية أو ما يعرف في أدبيات السياسة الدولية بـ «الدولة العالمية الخفية» أو في التاريخ المعاصر بـ «الحركة الماسونية».. لا تتورع من فعل أي شيء في سبيل تحقيق أهدافها العدوانية.. فإذا كانت أمريكا، ذات نفسها، ليست بمنأى عن خطر المطامع الإسرائيلية، فما بالك بدولة كالسودان.
ونواصل