د. عارف عوض الركابي : (الزجر والتخويف) من أهم مقاصد عقوبة المفسدين
لا يخفى أن من أهم ثمار حرب الفساد والفاسدين رد الحقوق إلى مكانها وإنزال العقوبات بالمفسدين ومضيعي الأمانات والمعتدين على المال العام أو حتى الخاص.. لكن ما ينبغي أن ينتبه إليه أن عقوبة المفسدين بعد كف أيديهم عن أعمالهم، ومحاكمتهم على جرائمهم، من أهم مقاصده: زجر (الآخرين).. وذلك حتى لا يزداد الفساد ولا يكثر، وحتى لا يصبح الفساد من الأمور التي يقلد فيها البعضُ البعضَ الآخر!!
وكما يقال (الحدود والتعزيرات زواجر وجوابر) (زواجر) ينزجر بها الآخرون.. فلا بد من استصحاب هذا المقصد المهم الذي هو من أهم أسباب (الوقاية) من زيادة الفساد وكثرة انتشاره، وكما يقال (من أمن العقوبة أساء الأدب).. نعم من أمن العقوبة أساء الأدب خاصة إذا انعدم أو ضعف الخوف من الله العظيم الجبار قال الله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار).. فإذا (رأى) الكثيرون وخاصة من تحت أيديهم أمانات عظيمة ومسؤوليات.. إذا رأوا أشخاصاً يقبض عليهم وتوضع (الكلبشات) على أيديهم وعلى أرجلهم.. وتعلن محاكمتهم عبر وسائل الإعلام (المرئي والمسموع والمقروء) ويجردون من ممتلكاتهم التي حصلوا عليها بالنصب والاحتيال أو السرقة أو الرشوة أو الغصب أو التزوير أو استغلال المنصب أو الابتزاز.. وغير ذلك، فإن ذلك سيكون له الأثر الكبير في محاربة الفساد، ولا يحتاج هذا الأمر إلى استدلال، فإذا كان من يسرق (ربع دينار) تقطع يده.. ويرشد المولى الخبير بخلقه وما يصلحهم سبحانه إلى طريقة الحد ومقصده (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم)..
فالنكال الذي يُرَى في قطع يد السارق عند قطعه وبعد ذلك.. من أهم مقاصده الردع والتخويف والزجر للآخرين.. وهو من أهم أسباب الوقاية، ويظهر ذلك أيضاً في قول الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).. ومع أن مبدأ الستر مبدأ شرعي بضوابطه وشروطه التي كتبت فيها بحوث ورسائل مستقلة، إلا أن مبدأ الزجر والتخويف بهذه العقوبات مما راعته الشريعة واعتنت به وذلك لتحقيقه المقصد العظيم في كف الآخرين.. وتقليل الشر.. فلا مقارنة بين سرقة مال قليل من شخص، وبين سرقة ملايين وأكثر من ذلك من المبالغ الخرافية التي تحكى في قصص الفاسدين.. فمن الضروري أن يوضع مقصد الزجر والتخويف في موضعه في آلية محاربة الفساد، ومن المعلوم أن مراعاة المقاصد تقتضي مراعاة الوسائل التي ستتحقق بها هذه المقاصد وهي السبيل والطريق إليها و(الوسائل لها أحكام المقاصد).. فتستثمر الوسائل التي تتحقق بها هذه المقصاد العظيمة في عقوبة المفسدين وقد ذكرت بعض الوسائل وأضيف إليها: أن يتم توثيق ونشر بالصور للممتلكات التي تحصل عليها الفاسدون بغير حق، سواء في الداخل أو الخارج، وسواء كانت: (عقارات أو منازل أو أراضي أو مزارع أو سيارات أو مصانع… أو غير ذلك)..
ومن وسائل تحقيق المقاصد في ذلك أن ما ثبت من هذه الممتلكات أنه أخذ بغير حق، أن يتم توجيهه للشرائح الفقيرة والأكثر حاجة في المجتمع لتنعم به ويرزق المجتمع وينصر بها، وقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام كما في البخاري وغيره (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)، لتكون ـ على سبيل التمثيل هذه الممتلكات (المنهوبة) ـ دوراً ومباني للعجزة والمسنين والمشردين والأيتام، واللقطاء، والطلاب الجامعيين الذين يسكنون في أماكن لم تخطر ببالنا!! ومن وسائل تحقيق هذا المقصد المهم في محاربة الفساد والفاسدين، أن يتم إخراج أسر من ثبت أنهم امتلكوا بيوتهم بالحرام ويغادروها إلى حيث كانوا يسكنون، ويرجع بهم الحال إلى ركوب المواصلات من بصات وحافلات بدلاً من تلك السيارات التي جاءتهم بالسحت الذي لن يفلح ــ في العاجل والآجل ــ من جلبه لأهله ومن يعولهم.. ووالله إن في ذلك الخير لأسر هؤلاء الفاسدين قبل أن يتحقق به الزجر للآخرين، (إن هم وغيرهم عقلوا ذلك)، فقد تقيأ أبو بكر الصديق طعاماً علم أن صاحبه لم يكن كسبه من الحلال!! فقد كان له غلام ومما ورد في الحديث في صحيح البخاري: (فَجَاءَ يَوْمًا بِشَىْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ تَدْرِى مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَىْءٍ فِي بَطْنِهِ)..وروي ذلك عن عمر أيضاً رضي الله عنهما، فإن من يجلبون لأهلهم المال السحت فيعلمونهم به ويصرفون به على دراستهم وصحتهم وسياراتهم وزواجهم.. وغير ذلك.. سيكونون وهؤلاء الأهل والأبناء في خصومات كبيرة و(شنيعة) وسيكونون أعداء، يوم لا تبقى الخلة والمحبة والصداقة إلا للمتقين، قال من لا يخلف وعده جل وعلا: (الأخلاء بعضهم يومئذ لبعض عدو إلا المتقين)..
ومما يؤكد أهمية تحقيق هذا المقصد أن الحدود لما طبقت في العهد النبوي كانت لأفراد محددين، وصلح بذلك المجتمع، فهي الدواء الناجع والبلسم الشافي في تحقيق الزجر والتخويف والمحافظة على أخلاف المجتمع وليت من يهرفون في هذا الصدد بما لا يعرفون يدركون ذلك، ويقومون بمقارنة (منصفة) بين العقوبات التي تطبق في دول الغرب الذي فتنوا به من سجن وغرامات تزيد من نسبة هذه الجرائم المهلكات (كماً وكيفاً)!!.