منى عبد الفتاح : السودان… أرضٌ تلد الانقسام
عندما سعت دولة جنوب السودان إلى الانفصال، وتحقيق استقلالها عن السودان في 2011، لم تستطع الدولة الوليدة تغذية الوجدان الوطني، أو القومي، للشعب الجنوبي، بحقيقة وجود الوطن الجديد بديلاً لقومية تابعة ومضطهدة. وكان ذلك بسبب أنّ زعامات الجنوب استبطنت الأسباب القديمة للنزاع في أركان الدولة الجديدة.
ما تواجهه دولة جنوب السودان من نزاع داخلي هو نتيجة تطور سياسي طبيعي، فالظاهرة وليدة واقع، وليست مصادفة، والوقائع التي مكّنت حكومة الجنوب من قرارها بتقسيم الجنوب المنفصل، منذ خمس سنوات، إلى 28 ولاية جديدة ما زالت قائمة. وهو ما حدا بهيئة التنمية في شرق إفريقيا “إيغاد” التي ترعى أمر الوساطة الإفريقية إلى دعوة دولة الجنوب إلى التراجع عن القرار، لأنّه يتعارض مع بنود اتفاق السلام لإنهاء الصراع في دولة الجنوب، والذي تم التوقيع عليه في أغسطس/آب الماضي. وتقف الوساطة الإفريقية وقوى المعارضة عند نقطة المطالبة بالعودة إلى الوضع القديم الذي كانت عليه دولة الجنوب منذ انفصالها، وهو عشر ولايات. كما تركّز على الالتزام بتنفيذ ما نصّ عليه اتفاق السلام، وهو قيام حكومة انتقالية، بنسب محدّدة للطرفين، تعمل على هيكلة الدولة وتقسيم السلطة والثروة، ووضع الترتيبات النهائية لقيام انتخابات رئاسية في البلاد.
كان التمني الذي لم يتم إدراكه بعد أنّه، بحصولها على حق الانفصال، تكون دولة جنوب السودان قد طوت بين جناحي حدودها آثار نزاعات الحرب الأهلية، حتى تصل بهويتها إلى رقم في المجتمع الدولي؛ إلّا أنّه في داخل هذه الدولة الحديثة كان يمور صراع آخر لسيادة هويات قبلية على أخرى. فمنذ قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة جون قرنق، في 16 مايو /أيار 1983، اعتمدت على القبيلة مكوّناً أساسياً مثّلها زعيم الحركة نفسه. واستمر ذلك الوضع، بعد أن انشقت بعض المجموعات عن الحركة وجيشها، فقد كانت الانشقاقات تتم على أساس قبلي، مثل الانشقاق الأكبر لمجموعة الناصر (نسبة إلى مدينة الناصر) بقيادة رياك مشار من قبيلة (النوير) ولام أكول من قبيلة (الشلك) عام 1991. وهو الانشقاق الذي ترك شروخاً في العلاقة بين مجموعة العقيد جون قرنق ومجموعة (رياك مشار- لام أكول).
هذه الشخصيات التي أعفتها حكومة سلفاكير أو حققت معها، أو تلك التي دخلت الصراع من بوابة المعارضة، رمزية وذات ثقل سياسي في السودان، جنوبه وشماله. وتستحضر هذه الحقيقة الصراعات التاريخية بين هؤلاء القادة في محيط التعقيدات القبلية التي يمثلها كلٌّ منهم. وظهر ذلك جليّاً، بعد أن نسفت حادثة مقتل قرنق، عام 2005، قواعد اللعبة السياسية للحركة الشعبية، لأنّها كانت تُدار بسياسة الرجل الأوحد. وقد فقدت قيادة الحركة الكاريزما وروح الزعامة التي كان يتحلى بها جون قرنق، وتجمع الرفقاء والفرقاء من حوله. وبرحيله المفاجئ، انتهت سيناريوهات عديدة، وهي أنّه لم يكن ليتزلزل كيان الحركة حزباً ناهضاً من أجل استقلال قومه، أو في حالة شراكته في الحكم مع حكومة الخرطوم، لأنّه هو الرجل الذي بيده أوراق اللعب.
“كان التمني الذي لم يتم إدراكه بعد أنّه، بحصولها على حق الانفصال، تكون دولة جنوب السودان قد طوت بين جناحي حدودها آثار نزاعات الحرب الأهلية”
ورثت دولة جنوب السودان نظاماً هشّاً سياسياً، وضعيفاً اقتصادياً ومعقدّاً اجتماعياً. فقابلية أن تتحول الخلافات السياسية بين قادة الحزب الحاكم في الدولة إلى صراع قبلي، كانت واردة منذ البداية، في ظل النزاعات داخل مؤسسة الحكم، مدعومة بالانتماء والتحالفات القبلية، خصوصاً وأنّ حداثة الدولة لم تسمح للولاءات السياسية من أن ترتقي، وتتسامى فوق تلك الولاءات القبلية.
يمكن تحليل أوجه النزاع الدائر في دولة جنوب السودان بأكثر من وجه: قبلي وسياسي واقتصادي، وهي الأسباب نفسها التي جعلت دولة جنوب السودان تنفصل واقعياً، ومهددة الآن بالتفتت الداخلي والنزعات الانفصالية. فعلى الرغم من أنّ دولة جنوب السودان مؤتلفة الإثنية والعرق والدين، إلّا أنّ الاختلافات، على مستوى القبائل العديدة واللهجات المختلفة، ساهمت في انشطار هذا الائتلاف، وتحويله إلى صدامات دائمة، فعندما طالبت دولة الجنوب بالانفصال عن الشمال، كان شعبها يراهن على شكل الدولة الأمة، وهو الشكل المحدد لرغبات انفصالية كثيرة لأقاليم أخرى، كانت جزءاً من دولة واحدة. أما وقد غدت هذه الروح الانفصالية سمة لتتويج نضال الجماعات، في بحثها عن هويتها، فإنّ أدواراً أخرى لا بد أن تلج معادلة الصراع الداخلي المتجدد، من أجل تحقيق أشكال عديدة للانفصال.
هذا بالإضافة إلى أنّ الاقتصاد الجنوبي، على الرغم من ضعفه، إلّا أنّ ثراء دولة الجنوب المستبطن يعتبر دافعاً للنزاع الداخلي، كما يعتبر موقع الدولة محفّزاً للقوى الاقتصادية العالمية، وبروز شراهتها في تقاسم الموارد، وتأمين مناطق عبورها الاستراتيجية بشتى السبل، حتى ولو اضطرت لبناء نظام سياسي بأركان دولة أو تحفيز الانفصال، والسيطرة على الكيان المنفصل الجديد. وبذلك، تكون هذه القوى قد وضعت يدها على كيان سياسي مهم في المنطقة، ليؤمن مصالحها، خصوصاً وأنّ الجنوب يحتل موقعاً مميزاً على طريق النفط. وهنا، يبرز التبرير الأخلاقي من وراء المصالح بأنّ التدخل، أو المساعدة في تقسيم الدولة، هو بسبب النزاعات الإثنية والوطنية، وتعرّض شعب الجنوب للاضطهاد الشمالي سابقاً، وللنزاعات الداخلية حالياً.