منى عبد الفتاح : الهوية والحداثة والمدينة الفاضلة
تواجه العالم العربي منذ عقود، قضية اجتماعية ثقافية وهي مسألة الحداثة التي تشابكت خيوطها مع أيديولوجية النظام العالمي الجديد، وما زال يواجه نفس القضية بالرغم من انسياب مفهوم الحداثة بما له وما عليه حتى صارت واقعاً معيشاً متجاوزة حدود التماسك القومي والديني.
ولعلّ ما ساهم في استيعاب هذه الحالة هو إغواء النظام العالمي الجديد للنظام العالمي القديم، لدرجة تجاوز الأهداف المرسومة، وصولاً إلى الآليات التي بدأت عملها في الحدود الصلدة المتمثلة في حدود الذات. وهذه الحدود كما ذكرها عبد الوهاب المسيري، تتمثل في الوعي القومي والذاكرة القومية والرؤى القومية، ثم حدود الموضوع المتمثلة في الدولة القومية والمصالح القومية المشتركة والسوق القومية.
والاستفهام الذي يبرز هنا هو لماذا لم يواجه هذا العالم القديم بشقيه العربي والأفريقي أو متمثلاً في العالم الثالث بأكمله، كل هذه التيارات ويسمو بمقدار اختلافه كي لا يكون نسخة مشوهة من الآخر وتابعاً له؟
في الواقع قد تجاوز النقاش وضع الهوية العربية كمثال في ظلّ الاختلاف المذهبي والفكري ومستقبل الهوية العربية في ظلّ الصراعات والاختلافات المطروحة على الساحتين العربية والغربية، إلى نقاش آخر حول ارتباط الهوية العربية بالحداثة.
وإذا كان مصطلح الحداثة عند الغرب يبدو قديماً وفارغاً ومطّاطاً منذ أن ارتبط بعهد النهضة، ثم مروراً بالثورة الثقافية والصناعية، فإنّه عند العرب يحمل ظلالاً ومعاني أكثر هلامية، للدرجة التي لم يستطيعوا معها النجاح في استخدامه بصورة دقيقة ومعبّرة.
ولعلّ هذه الظلال ناتجة عن إبعاد المعنى الإنساني عن المصطلح والنظر فيما قدمه مفكرون غربيون تميزوا بتمردهم على الأسس التقليدية، وتداخلت في تعريفاتهم التصاوير الدينية والاجتماعية والأخلاقية، مع الاقتصادية والسياسية. فعدم وجود تعريف عربي أصيل للمصطلح جعل التردد في الأخذ به من قالبه الجاهز مصدر توجس، خاصة عند النظر إلى أدبيات فردريك نيتشه وسيجموند فرويد وكارل ماركس في ذات الموضوع. وهؤلاء هم من أثاروا الجدل في الغرب نفسه بتأكيدهم على العقلانية العلمانية أو التقدم المادي لتأسيس أصل المصطلح، مما خلق نزاعاً آخر بين الأسس التقليدية والحديثة.
فالحداثة كما أشار إلى ذلك مالكوم برادبري في كتابه الصادر بذات الاسم، ليست وليدة دولة بعينها وإنّما هي: “حركة عالمية ولدتها قوى مختلفة بلغت ذراها في دول مختلفة وأزمان مختلفة، كان مكوثها في بعض الأقطار طويلاً وفي بعضها الآخر مؤقتاً.
في بعض الأقطار أساءت الحداثة إلى تراثها الموروث كالتراث الرومانسي والفكتوري والواقعي والانطباعي، وفي أقطار عدت نفسها تطوراً لذلك التراث”. فيما اعتبرها حتى الغرب فوضى حضارية وفكرية تمخضت عن الحرب العالمية الأولى، وعملت على صبغ أوجه الحياة في تلك البقعة بملامح تتجدد بسرعة بفعل التمدن والتقدم الصناعي والتكنولوجي الحضاري والفكري.
وصلت إشكالية علاقة العرب مع الحداثة -حسب بعض المفكرين الذين تناولوا أزمة الحداثة- إلى نتيجة مفادها أنّ العربي المعاصر مغترب على الصعيد المجتمعي ولكن عوامل عدة تمنعه من تفهّم وضعه وتخفّف من حدة اغترابه على الصعيد النفسي الشعوري، مما يجعله يختار الانسحاب والرضوخ بدلاً عن الثورة. وهذا ما يُسمّى توجها نحو الأمام، مهما كانت العواقب لأنّ الفوضى والتدهور هو مرحلة من مراحل تطور الحضارات بانتهاء مرحلة وبداية أخرى لم تكن لتتغير لو لم يتم زحزحتها من أساسها، عوضاً عن الركود والاندثار.
وفي حاجة المجتمعات المستمرة إلى التجديد وإعادة التنظيم الذي يشكّل جزءاً أساسياً من الحضارة؛ يجيء قول الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة): ” إنّ الأخس يقتضي عرض ما هو فوقه قليلاً وذلك يقتفي غرض ما هو فوقه. بعبارة أخرى اللاحق يقتفي أثر السابق، إلى أن ينتهي بينها وبين الأول واسطة أصلاً، وعلى هذا تكون الموجودات كلها تقتفي غرض السبب الأول، فالتي أعطيت كل ما به وجودها، فقد أعطيت قوة تتحرك بها نحو ذلك الذي تتوقع نيله وتقتفي في ذلك ما هو غرض الأول، وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة: فإنّ أجزاءها كلها ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب”.