محمد سعيد محمد الحسن : جذب الاستثمارات: كيف فعلتها أديس أبابا؟
الاستثمار، وتشجيعه وتحفيزه لا يحتاج إلى قوانين ولا اتفاقيات، ولا بروتكولات، ولا تصريحات، إنما يحتاج إلى عناصر جذب قوية وتسهيلات (وبيان بالعمل) وأهم جانب جاذب ومطمئن للمستثمر أن يكون البلد نفسه متكاملاً في البنية الأساسية والخدمات الحيوية، وأن يكون الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني ثابتاً غير قابل لاضطراب أو اختراق أو اهتزاز، والأجواء العامة فيه بلا توتر ولا منغصات ولا شد وجدب، هذه أبجديات جذب الأموال والاستثمارات من كافة الاتجاهات والبلدان، وعالم اليوم، أصبح على معرفة تامة بهذه الحقائق، لأنه عالم متداخل ومفتوح ويريد أن يفيد ويستفيد.
وأنقل واقعة كنت قريباً منها في بدايات حقبة التسعينيات، أعد صديق بيطري مشروعاً متكاملاً لصناعة الأدوية البيطرية للتغطية المحلية (السودانية) وللدول المجاورة، وحصل على قرض بتسهيلات مرنة اقتناعاً بالمشروع وجدواه، وأظنه آنذاك في حدود 50 مليون جنيه استرليني، وقبل وصول القرض أراد الصديق البيطري أن يطمئن إلى الإجراءات الخاصة بتأمين قرض المشروع حال وصوله (المالية وبنك السودان) وظهرت أمامه تعقيدات وتحفظات ومصاعب، وتلقى نصيحة بالذهاب إلى أديس أبابا، ليقارن ما بين التسهيلات والامتيازات الممنوحة في اثيوبيا والقوانين بالسودان، ومع أول لقاء مع المسؤولين الاثيوبيين عن العمليات أو المشروعات الاستثمارية، أبلغ مباشرة أن كل شيء متاح أمامه وسيتلقى مباشرة ما يؤمن أمواله لدى وصولها، ولدى سحبها أيضاً، ولدى تحويلات الأرباح ما دامت كلها سالمة، وليست لديهم أي شروط أو إجراءات من أي نوع، وإنما عليه أن يطلب وسيجد التسهيل المطلوب المؤمن لأمواله ولكن لديهم شرط واحد ولا يفرضونه، ولكنهم يتوقعون الاستجابة له، وهو أن تكون (العمالة اثيوبية)، أي توفير فرص العمل للاثيوبيين، ومن حقه الاستعانة بالخبرات الفنية والاستشارية والإدارية من بلده أو من أي بلد آخر، وفي الحال نقل السوداني المستثمر تمويل المشروع الذي كان في طريقه لبنك السودان بالخرطوم، إلى البنك المركزي بأديس أبابا، ونفذوا له كل ما قيل له وزادوا عليه تسهيلات أخرى، جعلته ينقل أسرته بالكامل إلى أديس أبابا، ونجح المشروع تماماً في إنتاجه وبتغطية احتياجات اثيوبيا البيطرية، والتصدير للخارج، وأضاف إلى المصنع، مصنعاً آخر، وإضافات ذات صلة بالصناعة البيطرية المتطورة، وجذب معه مستثمرين آخرين.
التسهيلات والمعاملات والإجراءات والإغراءات الاستثمارية السلسة والفورية و(البيان بالعمل) وحده الجسر الذي يجعل الاستثمار يتجه تلقائياً ومباشرة نحو السودان، ومناخ الاستقرار يعزز الوصول إليه، ومثل هذه الحقائق لا تغيب عن صنّاع القرار، وكذلك الواقعة التي ذكرتها، يعرفون مئات غيرها، السودانيون أنفسهم نقلوا أموالهم إلى مصر والخليج وأوربا للاستثمار وللاستقرار، وتركوا القليل داخل الوطن.
مع كل التقدير للجهود التي تبذل لجذب الاستثمار العربي والآسيوي، والأوربي والروسي للسودان يظل الأهم أن تكون هنالك جهوداً أكبر وأكثر كثافة وإقناعاً وبياناً و(بيان بالعمل) للجذب مع أجواء ومناخ مستقر لتحقيق ما هو مطلوب، ويأتي الحديث لاحقاً عن الصناعات السودانية الكبيرة التي كانت تصدر إنتاجها إلى أوربا وآسيا والدول العربية وتوقفت.. كيف نعيدها سيرتها الأولى؟ أو على الأقل نعيد جانباً منها كدلالة على معرفة وجدوى الأهم والمهم في الصناعة وفي الاستثمار.