حسين خوجلي

وصايا وحكايا


(1)
٭ البعض من علماء القانون والتشريع يصنعون القوانين والتشريعات للناس من داخل الغرف المغلقة ومن داخل أضابير الكتب البيضاء والصفراء، ولذلك غالباً ما يضطرون لتغييرها بعد أن تنفق الملايين لاجتماعاتهم هذه المصنوعة، وبعد أن تظل قوانينهم الناقصة هذه تفعل فعلتها فنياً زماناً سلخاً وجلداً وسجناً، وحين تثور الثورات وتدور الدوائر، يكتشفون فجأة أنهم قد أخطأوا الفتاوى والنصوص، فيبدأون من جديد في صياغة قانون أبتر جديد..
والمساكين لا يدرون جهلاً أو تجاهلاً أن القوانين التي تحكم الناس لا الحجارة صمّاء يجب أن تكون عادلة ورحيمة ومتفهمة وذكية وخارجة من عصب الناس وثقافتهم.. قوانين تمشي بين الناس لأنها منهم واليهم..
وقد أعجبني، بل في الحقيقة أدهشني، مثال الفاروق الخليفة القتيل الشهيد الذي كان يطوف المدينة التماساً لا تجسساً، والناس والعسس والأنجم نيام، فقد قال الأثر أنه في تطوافه سمع يوماً امرأة من نساء العرب والدنيا والناس هجوع وهي تقول في تأثر وشجن:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه
وأرّقني أن لا ضجيع ألاعبه
فو الله لولا الله تخشى عواقبه
لزحزح من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشي رقيباً موكلاً
بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافةَ ربّي والحياء يصدُّني
وأكرم بعلي أن تنال مراتبه
بكى عمر طويلاً ومن ذلك اليوم استنّ قانوناً لقوات الشعب المسلم المسلحة وأرسله إلى عمالها وقواده في الجيش «أن لا يغيب أي من الجنود أكثر من أربعة أشهر».. تخيلوا معي شعر وشكوى وامرأة لا يعرف أحد اسمها تسهم في تشريع كامل لخير أمة أخرجت للناس، وفي أزهى زمان وطأه المسلمين..
القوانين يا سادتي لا تصنعها النصوص.. ولكن تصنعها معها وفي تحالف راشد النفوس..
(2)
٭ غنى لعديلة في زواجها الشهير بحي العرب أبو خليل رائعة ود الريح:
أنا أصلي ما حبيت غير الجمال في الروح
تعال ولو مرة
داوي الفؤاد مجروح
وغنى لابنتها أميرة صاحب الصوت الشجي محمد ميرغني من كلمات الرائع العتيق السر دوليب:
أنا قلت حبنا راح
مرَّ الزمن وطواه
والباقي منو شجن
وعذابنا في ذكراه
وجدت أكبر حب فوق الضلوع مأواه
لا هان على أسيبو
ولا هان عليك تسلاه
أما ابنة الابنة «دينا» فقد غنى لها فنان مجهول من كلمات شاعر مجهول.. كلام يا عوض دكام.
ليس في الدين والحياة وحدها، فحتى في إشهار الحلال والمزاج فقد سارت المشيئة لا تبالي «كل حول ترزلون».
(3)
٭ وفي يسر يجمع صديقنا «صديق ود الصول أخراه بالقطاعي الحلال والأكثرية تكابد الدنيا ولا تجد منها شروى نقير.
حدثني الصحاب أنه هذه الأيام يمتلئ فرحاً وهو يعلّم نفسه وأهله، ويفعِّلها قول المصطفى «من صلّى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين، ومن صلى ستاً كفى ذلك اليوم، ومن صلى ثماني كتب من القانتين، ومن صلى اثنتي عشرة بنى الله له بيتاً في الجنة».
(4)
٭ وعندما كانت العلاقة ما بين الطالب والأستاذ في أيامنا علاقة تربية وتعليم وخصوصية، قبل قلة التربية والتأليم والدروس الخصوصية.. كان أساتذتنا يطالبوننا بكراس خاص واستثنائي، نسجل فيه فيوضات علمهم وثقافتهم في اللغة والدين والسياسة والاجتماع والشوارد، وهي عادة ظلت معنا إلى اليوم، وهي أن تكون لنا كراسات ودفاتر خاصة، نكتب فيها ما استحسناه من الأدب والشعر. وقد وجدت هذه الأيام بعضها فأغرتني بكتاب من المفضليات والاختيارات بعنوان «أشعار عريقة من دفاتر عتيقة»، وهي أوراق يتجاور فيها الملك الضليل والمجنون وحسان وابن هانئ ومهيار وشوقي ونزار والسيَّاب وصلاح أحمد إبراهيم، جوار تجمّع بين أهل الصحارى والأنهار والمهاجر، وشعر يتصالح فيه عميق الحكمة وعصي الشكوى ومرير الهجاء وجليل الهوى.. وكريم السجايا والانسانية. وقد صدق أيليا أبو ماضي وهو يغري بالمكارم بلا وعظ ولا غلظة:
كن بلسماً إن صار دهرك أرقما
وحلاوة إن صار غيرك علقما
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا
لولا شعور الناس كانوا كالدُّمى
أحبب فيغدو الكوخ كوناً نيراً
وابغض فيمسي الكون سجناً مظلماً
(5)
٭ نحن من جيل الباب الموارب والتوب الأنيق والحبيب الذي حين يجود يمنحك فقط جملة مفيدة..
نحن من جيل لا يستطيع أن يصف، لأنه لا يستطيع بعض المشاهدة، حتى ولو أتيحت له. ولذلك مازالت أجمل الألحان عند ذلك الجيل:
كيف أوصف محاسنك ولحظك لي محارب
ما استوفيت نفايلك بالوصف المقارب
شفتك مرة غافل نورك جاني ضارب
أصفر أخضر أحمر زي شفق المغارب
عازلي لي مؤنب حاسد صدره لاهب
عامل نفسه عاشق سارق الحب وناهب
ادراك المدارك مقدار المواهب
شرع الحب تفرع وحب الناس مذاهب
النص هذا للصنايعي عبيد عبد الرحمن يا أولاد الهندسة..!!.