احمد طه الصديق : الجن براءة !!
> في منتصف التسعينيات تقريباً، أجريت تحقيقاً صحفياً في إحدى مناطق أطراف الخرطوم عن منزل قيل إنه يحترق بطريقة غامضة. فالدولاب تشتعل فيه النيران وتحترق بعض الملابس، وإحدى الغرف اشتعلت فيها النيران بكثافة، والأب يقول إن محفظته سرقت من تحت المخدة وإن الجنّي كتب على الحائض بخط ردئ «أرحلوا من البيت». «هسه كان كتب العبارة لأنظمة المنطقة العربية ما كان أحسن»، المهم حملت دفتري ومعي المصور وركبت المواصلات العامة رغم بعد المشوار وكان الطقس حاراً جداً، وحين سألت أحد العابرين عن المنزل الذي يحرقه الجن قال لي «أهو داك البيت الفيهو حريق». وحين وصلت وجدت الأب وشقيقته في انتظاري وأخذوا يسردون لي حكايتهم مع الجني المشاغب، وقررت ألا اندفع بالتسليم برواية الجن، وألا يسيطر عليّ السبق الصحفي وأنه ولابد أن أتقمص دور المحقق الشرطي حتى أصل للحقيقة، ولاحظت أن كل الحرائق التي تحدث يكتشفها ابنهم الشاب دون سواه فأخذت استبعد مقولة تجريم الجنّ وبدأت أتشكك في الابن باعتباره الفاعل خاصة بعد سرقة محفظة والده وكتابة التحذير على الحائط، وخرجت في النهاية بيقين بأن الجنيّ براءة وأن الشاب هو صاحب السيناريو الفطير الذي انطلى على الأسرة الطيبة التي كانت تثق كثيراً في ابنها، وحين عدت إلى الصحيفة صرفت النظر تماماً عن النشر في حين كان من الممكن أن أروي الحكاية المثيرة وكأنها حقيقة، ولم تمض أيام قليلة عندما قابلني أحد أقرباء الابن صاحب السيناريو المثير، وحكى لي أن الشاب قد سطا على منزل الجيران وسرق وتم ضبطه. فحمدت الله على عدم النشر وتأكد لي أن الجنيّ أو الشيطان لم يسرق لكنه بالطبع هو الذي همس للابن أن يفعل ما فعل.
> وبالأمس قرأنا في الصحف أن حرائق مجهولة وغامضة تكرر حدوثها في مستشفى النو بأم درمان في أقل من عشرة أيام، حيث حرق أولاً مكتب الأمن وتأثرت الجدران والسقف بالحريق، وكذلك مكتب شؤون العاملين، بيد أن ملفات العاملين لم تحترق، وأخيراً حدث حريق في مكب النفايات امتد حتى الشارع، ورجح بعض العاملين أن يكون الجن وراء الحرائق المتكررة، وقال مدير المستشفى د. المعز حسن بخيت إنه أمر بتكوين لجنة تحقيق وسيعقد مؤتمراً صحفياً يوضح فيه الحقائق بعد انتهاء التحقيق والذي لن يكون بالطبع الجنّ ضمن المتهمين.
> والطريف أن كثيراً من الناس يلجأون للسحرة والمتشعوذين لإخراج المستأجرين من منازلهم بواسطة الجنّ. وتقول إحدى السيدات العالمة في هذا المجال المحرم البغيض لصحيفة مصرية، إن الأمر عادة لا يستغرق سوى ثلاثة أيام ويحزم بعدها المستأجر حقائبة دون عودة، وتحدثت عن آليات الشغل «بتاع المضرة لمعظم الحالات والتي تتلخص في بول فار وزجاج سيارة محطمة بحادث أو صورة المستهدف ويجهز العمل في الخلاء لزوم التطفيش والجهجهة».
> وكثيراً ما تصور الدراما المصرية الحرائق المفتعلة التي يقوم بها «الهبارون» في أماكن العمل الخاص أو العام لحرق بعض المستندات التي تدينهم حتى يخرج براءة ثم يزف بالتهانئ والتبريكات وربما بالجوطة والظمبريطة، ومن يدري ربما كان الجنّي هو المتهم الأول حتى إشعار آخر؟
> أما في مستشفى النو فحتى الآن فإن الحرائق لم تطل أياً من مكاتب الحسابات، مما يعني أن الحدث غير مدبر أو أن الفاعل واحد زهجان أو ربما جان قتيت، والله أعلم.