هاشم كرار : إنه الشوف العظيم!
(للموت فجّة) كما يقول أهلونا في السودان..و(الفجّة) تعني الفتحة.. وعبر هذه الفتحة يرى من تقارب روحه أن تطلع، مالا يراه غيره.
لم أعش (فجّة الموت) برغم أنني- مثلي مثل كل كائن حي- سأعيشها، غير أني أكاد أتخيّلها، وأتخيّل ما قد أرى في هذه اللحظة العظيمة: أتخيل أنني سأرى الوجود كله في كمال تجلياته، وما بعد الوجود من وجود!
أهلونا يقولون، إنه في لحظة (الفجة) يشرق وجه الإنسان، ويتضوأ.. وتتجّمل تقاطيعه، وتصفو ملامحه.
يحكي أحدهم، عن زوجته التي كانت قد اقتربت نهايتها، بعد صراع مع المرض: صارت جميلة بشكل لا يصدق. كانت كما رأيتها في يوم عرسها!
كم من الوقت، تستمر هذه (الفتحة) التي يرى فيها المرء- لأول مرة- ما لم يكن قد رأى؟
قد تستمر لساعة.. ساعات، وقد تستمر لدقائق.. وقد تكون بمسافة لمحة، تضم كل لمحة.
هذا ما أظنه.
في هذه (الفجّة)، أتخيّل أن الحواس كلها، تتحد وتتوحد، وتتماهى بشكل غريب.
أتخيّل، البصر والبصيرة.. لا فرق..
أتخيّل العقل والفؤاد.. لا تنازع.
أتخيلها: تلك لحظة انكشاف الغطاء..
لحظة الإلمامة بالوجود.
قبل هذه اللحظة التي لا تشبه أي لحظة من لحظات الدنيا، يستشرف المرء، موته.
سأحكي: شقيقي الأكبر، والذي كان يعاني من سرطان الرئة، كان وجهه يتضوأ.. وكان يسأل من وقت لآخر شقيقي: الساعة كم؟».. «الساعة كم؟»، وحين تجيئه الإجابة يزداد وجهه ضياء، برغم أنفاسه المتعثرة.
ظل يسأل، وفي مرة، سأل كمن يترقب حدثا عظيما: «الساعة خمسة لسه ما جات»؟
….. وحين جاءت الخامسة مساء، تماما، صعدت روحه إلى خالق الأرواح، جميعا.
سأظل أحكي: يحكيلي أحد الأصدقاء: صلّى والدي الصبح، وأيقظ ابنه البكر ليطرح عليه سؤالا غريبا، والديا في (فجة) صباح جديد: .. إنت يا ولدي بتخاف من الموت.
قال لا!
(سمح) أنا «ح أموت». جيب ورقة وقلم، وأكتب.. وكتب كل وصاياه.. ثم، قال لابنه: أذهب، ونادي إليا عمك فلان. جاء.. احتضنه، ووصاه أيضا، و.. لم تمر لحظات، حتى تضوأ وجهه كله، وتجمّلت كل ملامحه. كان ملك الموت ينقر في تلك اللحظات على أبواب الروح، و… كملت المعدودة!
أيها الناس: من لم ير، في خضم الغفلة، سيرى.. سيرى في في قمة تجليات الانتباهة.
إنه الشوف العظيم!