حسن الترابي و«الدولة المستحيلة»
لعب رئيس «حزب المؤتمر الشعبي» السوداني، حسن الترابي، دوراً بارزاً في تاريخ بلاده الحديث، والمنطقة العربية. وجاءت وفاته يوم السبت الماضي لتذكّر العرب والسودانيين، بأثره الذي لا ينكر، سياسياً (وفكرياً) على مشروع تمكين ما يسمّى بتيّار الإسلام السياسي من حكم السودان.
وتبيّن برقيّات التعزية، التي جاءت من الأحزاب السياسية الموالية والمعارضة في السودان، بما فيها الحركات التي تخوض صراعا مسلحا مع النظام، الوزن والجاذبية الكبيرين للرجل. كما تكشف الجموع الغفيرة التي شاركت في تشييع جثمانه، والذين توزعوا بين حزبي المؤتمر الشعبي، الذي كان يقوده حتى وفاته، والمؤتمر الوطني الحاكم، المعضلة التي كان الترابي مسؤولاً فكرياً وسياسياً عن تكوينها.
بدأ الترابي، كما هو معلوم، حياته السياسية بالانتماء لحركة متأثرة بفكر جماعة الإخوان المسلمين هي «جبهة الميثاق الإسلامية»، التي تولّى أمانتها العامة عام 1964. واصطدمت الجبهة عام 1969 بجعفر النميري، الضابط الذي قاد انقلابا عسكرياً (في موجة انقلابات عسكرية انتظمت العراق عام 1968، وليبيا عام 1969، وسوريا عام 1970، ومحاولة قيّض لها الفشل في المغرب عام 1972).
بعد سجن لسبع سنوات أطلق النميري سراح الترابي وتصالح مع الحركة الإسلامية السودانية. لكن الخلاف دبّ من جديد بين الطرفين (رغم إعلان حكومة نميري فرض قوانين «الشريعة الإسلامية» عام 1983). واشترك الإسلاميون مع غيرهم في ثورة شعبية ضد نميري تشكّلت بعدها حكومة ديمقراطية منتخبة. وكانت المفاجأة هي قيام حزب الترابي الجديد «الجبهة الإسلامية القومية» بانقلاب عسكري ضد هذه الحكومة وتعيين حسن عمر البشير رئيساً لحكومة السودان.
تمثّل العلاقة التي نشأت بين الترابي والإسلاميين السودانيين، من جهة، وكل من الرئيسين جعفر نميري وحسن البشير، من جهة أخرى، «اجتهادا» خاصّاً بالإسلاميين السودانيين راهنوا فيه على العسكر، وارتدّ عليهم هذا الرهان، وعلى الحركة الإسلامية العربية ككلّ، بانتقادات تيّارات القوميين والليبراليين واليساريين على كافة أصنافهم. فاتهمت اتهامات عديدة، منها أنها معادية للديمقراطية بطبيعتها، وأن تسلمها للسلطة في أي بلد عربيّ سيكرّس دكتاتورية دينيّة تغلق الباب على التطوّر المدني والحضاري العربيّ، وأنها ستعيد البلدان العربية إلى «مجاهل القرون الوسطى»، إلخ…
لكنّ ما يحسب للترابي، اختلافه مع حكومة الإنقاذ حول قضايا الحريات والديمقراطية وانتشار الفساد، ومماحكاته السياسية العنيفة مع السلطات، مما أدّى بالنتيجة إلى اعتقاله عام 2001، وكذلك عام 2004. كما يذكر له، على المستوى الفكري، محاولاته الجريئة في تجديد الفكر الإسلامي. ومن أمثلة ذلك ما ارتآه من إمكان إمامة المرأة للرجل في الصلاة، وفتواه في إباحة زواج المرأة المسلمة من أهل الكتاب، ومحاربته لختان الإناث. وفي ذلك كلّه، يصدر الترابي عن تراث فكريّ وسياسيّ سودانيّ عميق ومتميّز.
ولعلّ الدرس الأكبر، الذي يمكن أن يستفاد من حياة وأفكار وتجربة الترابي، هو وقوفه ببصيرة نافذة وقدرة فائقة على التأقلم والتعلّم أمام معضلة الدولة الحديثة وعلاقتها بالإسلام، من ناحية، وبالحداثة الغربية، من ناحية أخرى.
وبحسب الأكاديميّ الفلسطيني المعروف، وائل حلاق، صاحب كتاب «الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» أن الدولة الحديثة هي ابتكار غربيّ وأن مفهوم «الدولة الإسلامية» مستحيل التحقق. فبرأيه أن قانون الإسلام الأخلاقي، المعروف باسم الشريعة، كان حتى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة اثني عشر قرناً، القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع، وأن الاستعمار الأوروبي فكّك النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا بحيث أفرغتها من كونها مضمونا حضاريا شاملا وتحوّلت إلى تشريعات لقوانين الأحوال الشخصية فحسب.
يمثّل تيّار الإسلام السياسي، بهذا المعنى، شكل المقاومة الحضارية والأخلاقية للدولة الحديثة التي «أنزلت الدولة، والعالم الذي أنتجته، الأخلاق إلى منزلة النطاق الثانوي»، وبين المقدّس الأخلاقيّ والمدنّس السلطويّ، تقبع المعاناة الكبرى التي عاناها الترابي، والتي لم تستطع الحركات الإسلامية الخروج منها بعد.
رأي القدس