رأي ومقالات

الترابي

يطلق بعض الذين فقدوا مناصبهم، وجردوا من رتبهم، إبان مناصرتهم الفكرة وقتذاك كما يزعمون؛ عندما يمر بهم إخوة الأمس وهم يمتطون سياراتهم الفارهة، ويتقلبون على أسرة مناصبهم الوثيرة كلمة: (الشيخ عنيد)؟! ويطلق بعض إخوانهم بالمقابل من مناصري السلطة، (قلوبنا مع علي وسيوفنا مع معاوية) … على سبيل التهكم والسخرية وربما الهشاشة والحنين وحب الدنيا وإيثارها. ومن ثم انطلت على آخرين فكرة الترويج والتبرير والتلفيق لإثبات إن ما حدث ليس إلا مسرحية، سرعان ما يزاح عنها ستارها المسدول…دون أن يدركوا أن خلف هذا الستار مأساة حقيقة، لا يمكن تجاوزها إلا بالصفح والحوار والإيمان بالتعدد والمغايرة وهو ما سعى إليه الدكتور حسن الترابي بحزم وصرامة، بعد أن استيئس من النظام السياسي الذي كان يمثله…أو بعد أن انقلب عليه تلامذته؟
نفض الترابي يديه من النظام السياسي، واعتذر بصدق وشجاعة للشعب السوداني وانخرط من جديد في حياة الفكر والتأمل، والحركة والسياسة متجاوزاً الماضي ليس ناقماً أو حاقداً. مقراً بأن السلطة السياسية التي تقوم على القوة والعنف لا يمكنها أن تؤسس لسلام دائم. وإن محاولة نزع السلطة بالعنف لا ينجم عنه إلا عنف مضاد. لذلك انطلقت دعوة (الحرية) وتشاركها مع الآخرين (الحرية لنا ولسوانا) ودفع ثمن جهاده سنوات أخرى في السجون والملاحقة والتضييق، والإساءة والانتقاص من ذوي القربى الذين عندهم من الدين ما يكفي للبغض والكره والاضطهاد، وليس عندهم ما يكفي للحب والحوار.
يتوجب على الإسلاميين الاعتراف أولاً أن ما حدث كان شرخاً عظيماً، ليس في جدار الحركة الإسلامية القابل للتصدع أصلاً باعتبارها نظاماً يحتاج إلى ترميم وتحسين مستمرين، ولكن في أرض السودان الصلبة المتماسكة بعد أن دبت العنصرية والتعصب الغبي الذي مزق أواصر المجتمع كافة أو كاد.
وحري بهم أن يتوبوا حقاً، لا ليذرفوا الدموع، فالدموع لا تغسل ما علق بالقلوب، ولكن أن يتسامحوا، بعد أن يعترفوا بالأخطاء التي ارتكبت في حق الشعب وحق إخوانهم. فالحلم والتسامح وحدهما قادران على محو أسداف ظلام النفوس.
ويبقى الترابي الذي تمنى أن يرى السودان بخير قبل أن يتوفاه الله مثار جدل في مماته، بعد أن كان مثار جدل في حياته…لا لشيء إلا لأنه قاد ثورة فكرية تجاوزت زمنه وأمته. ويبقى مثار جدل لأن الناس حارت في نبوغه وتميزه وعبقريته.
ويظل الترابي مثار جدل لأن السنوات ضنينة ولن تجود قريباً بعبقرية تضاهي موسوعيته وقدرته على الجمع بين الفكر والسياسة. فهو مفكر عميق، وسياسي بارع.
الترابي ترك أثراً عميقاً في نفوس الكثيرين، لأنه داعب خيالهم، وأثار فضولهم، وأيقظ حسهم، ودغدغ وعيهم. لذلك يبقى نبراساً مضيئاً لكل من يتطلع إلى الحكمة في المعرفة، والحرية في السياسة.

عبد القادر دقاش