حسين خوجلي

الشفافية القتيلة والانتصار الغائب…!!


> دارت معركة أحد في صحراء جرداء منسيّة.. ليس حولها أية منصات، للتوثيق أو التصوير المتحرّك أو حتى الشمسي الذي أصبح يمارسه من بعد المحترفين الآن هواة الهواة، ولكن كان هنالك تصوير أعظم، تصوير الخالق الدائم المصوّر على الإطلاق، وكان هنالك تصوير المؤمنين النسبي الذين قالوا يومها كل شيء وتحدثوا عن كل شيء، حتى خفقات الأنفس ولحظات التوتر، والهمسات الصغيرة، قبل أن يفارق الحبيب حبيبه، والصفي صفيه والوفي وفيّه.. فراق أدنى ما فيه جرح عميق أو موت وثيق..
> أُحد كلها كانت ناطقة حتى الجبل الجامد.. ألم يقل الأثر الباهر بأن أحد جبل يحبّنا ونحبّه، نعم نحبّه ويحبّنا رغم الهزيمة الظاهرية والانتصار المؤجل..
> انظروا كتب السيرة كلها تجدون أخبار الرجال واحداً واحداً وأخبار النساء واحدة واحدة.. الأفكار والأشعار والخطة والحكايات الوليدة والوصايا والدماء… تجدون كل ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم وكل ما فعله حمزة.. وكل ما تربّص به قاتله «وحشي».. ذاك الغريب الفصيح والذي صار لاحقاً سيدنا الذي قتل سيدنا.. «قلّبتُ رمحي وامتحنته فلما رضيت عنه أطلقته فأصاب مقتلاً».. كل شيء.. كل شيء.. حتى الذين خالفوا الخطة وثّقوا بأسمائهم وقبائلهم وبطونهم حتى تقييم العدو وكيف فعلها خالد.. كل شيء عن تصميم القرشيين الخوارج وإصرارهم على قتل النبي الكريم.. كل شيء.. كل شيء.. وثّقوا كل شيء بلا خوف ولا تصنّع.. ولا مداراة.. حتى دفاع النساء واستبسال نسيبة حين انكشف الناس وعزّ النصير.. حتى حديث المنافقين من خرج منهم خوفاً ومن قعد منهم تربّصاً لم يحدث انسحاب أبداً حتى دَفن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، أكرم صحبه وأحبابه الذين جمعهم واحداً واحداً.. في أيام الخطر والمسغبة، والتهاب الباطن، جمعهم على حذر ومشقة، كما يجمع الشاعر المفجوع جيّد القريض، ودَفن المصطفى صلى الله عليه وسلم كل الذين أحبهم واحداً واحداً.. ولم يخف شيئاً من الدمع والكلام حتى توعّده قريشاً بالمثلة التى تقبلها المفجوعون من صحابته تسلية وانتقدها القرآن درساً.
قالت السيوف قولتها..
وقالت الصدور نفثاتها..
وقالت الأعين أدمعها..
وقالت العقول بناتها..
> إن الذين يقرأون هذه الحكايات ذات المغزى والدروس والكبرياء يدركون أنها حكايات عظيمة لشعب عظيم.!!
شعب لا يكذب.. منكسراً أم منتصراً.. لا يخفي شيئا لأنه صاحب فقه مفتوح في الحرب والسلم، فقهاً يفيد الإنسانية ويفيد حركة الصدق والمكاشفة والنقد الذاتي.. ومن هنا بدأت الشورى الحقيقية وأصدق أنواع الشورى هو ما تقوله والشيطان يوسوس لك بأن تخفيه خوف الشماتة وخوف أحاديث الناس ارضاءً لحق النفس أو شحها.. ومثال في التوثيق والكشف والنقد الذاتي أشد وضوحاً في معركة حنين، حيث عجب الكثرة والخيلاء وعدم الاكتراث للآخر حيث تغري كثافة النفر بإبعاد الأسباب والعلة، والمعلول والمعاصرة.
> وبذات المنهج استمر الكشف للهزيمة واضحاً، حيث أخرج المنهج كل شيء متسائلاً من هي القبائل التي تقهقرت؟ ومن هم الرجال الذين أعطوا العدو قفاهم؟! ومن هم الذين زُلزِلُوا؟ ومن هم الذين ظنوا أن الرسالة تموت بموت صاحبها؟!. ومن هم الذين وقفوا وهم في صف الإسلام «يتفرجون» على القوى الجديدة التي تخلف نبي العرب؟. بيد أن آلة التوثيق اللامرئية كشفت عن الذين وقفوا من أهل الصدق.. ثلة الذين سوّروا الرسول صلى الله عليه وسلم بصدورهم العارية وأكتافهم الحارة ضد أصحاب الأكتاف الباردة والصدور الضغينة.. والرسول يكبّر وأبو تراب يهتف بسيفه ولسانه.. وما أقسى الخطابة والهتافات في غبار المعمعة والدم والجزع والرجاءات .. لو كنتم تعلمون؟!!.
> نقل أهل الإسلام في حطين كل الذي حدث قولاً وفعلاً وما غادروا حدثاً أو حادثاً أو حديثاً.. وعبر هذا التراث الإسلامي الرصين الذي يربط الحرب بالسلم والسلم بالحرب والمدافعة بالمرافعة خرجت كل هذه المواقف والكتب والرجال. وأصبحت التجربة موصولة إلى يومنا هذا.. حارّة كأنها حفظت في «ثيرمس» كما يقول ظريف الفقهاء أخي وقرة عيني الصافي جعفر.
> وإذا كان ذلك كذلك فما الذي أغرى الجيوش العربية والإسلامية المعاصرة وهي قد خرجت من ذلك الفهم ومن ذلك الدم ومن ذلك التاريخ..؟
ترى من الذي أغراها بذلك الصمت والتستّر بكل شيء يحدث فى صفوفها؟ ذلك التستّر الذى يضرب كل هزائمهم الكبرى التى أبت أن تلد انتصاراً واحداً.
> هل رأيتم كيف يقيمون الأرض ولا يقعدونها حين يتحدث الناس ولو حديثاً عابراً عن انسحاباتهم وهزائمهم وفضائحهم من سقوط الخلافة إلى «فتحة» الدفرسوار! مروراً بالنكسة الفاجعة عام 97 التي هزمتنا وفجعتنا دون أن نطلق طلقة واحدة مع أن كل طلقة وأمهاتها من المدافع والصواريخ والدبابات والطائرات اقتلعت اقتلاعاً من أفواه الجوعى وأعين المرضى ومصير البائسين ليوم كريهة كما يدعون وسداد ثغرهم.
> يبدو أن الصمت غير البليغ للجيوش العربية ووزراء الدفاع العرب وأفرع التوجيه المعنوي صار فلسفة مرضياً عنها، فالصراحة صامتة والهزيمة صامتة والميزانيات صامتة والتدريب صامت والتعقيب صامت والنقد صامت والتحديث صامت والشفافية وحدها قتيلة والانتصار غائب. أما الحقيقة فهي موءودة الألفية الجديدة مثلها مثل الحقيقة التي كانت نفسها منحورة القرن العشرين..
> سادتي دعوا الناس يحدِّثونكم عن أفصاحهم الذي يتمتعون به، دعوهم يخلعونهم عن الجيوش العربية ولو لمرة ولكل عاصمة لتكتشفوا فجيعة ضعفنا وانكسارنا وفقرنا وهواننا على الناس..
> إننا حتى اليوم لا نعرف ماذا أنفقنا وماذا فقدنا وكم العائد..
> سادتي إن كل شىء فى هذه الدنيا شراء وبيع حتى نفوس المؤمنين تشرى من خالقهم بأن لهم الجنة بسلعة المدافعة!!.
> إذن فإن الجماهير العربية حين تطالب بمطلب صغير وواضح ومشروع فإنها تطالب بعملية جرد للجيوش العربية التي أنفقت عليها وشدّت من أزرها وأعطتها أشرف فلذات أكبادها.. أليس من حق هذه الجماهير أن تعرف حجم الربح والخسارة..
> إنها تطالب بجرد موضوعي للأراضي المفقودة والأنفس والثمرات، وترغب فيمن استشهد ومن ثبت ومن انسحب ومن خان ومن تراجع لأن هذا جزء أصيل من تاريخها ومن سيرتها ومن مجدها القومي.
إن الشعب من حقه أن يعرف «الجِنْيات الجَرو» ومن حقه أن يعرف «اللاقو المكن متل نايمين».
ومن الهدايا:
> تعلم فليس المرء يولد عالماً
لما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبدالعزيز أتته الوفود، فإذا فيهم وفد الحجاز، فنظرإلى صبي صغير السن وقد أراد أن يتكلم فقال: ليتكم من هو أسنّ منك، فإنه أحق بالكلام منك. فقال الصبي: يا أمير المؤمنين لو كان القول كما تقول لكان في مجلسك هذا من هو أحق به منك، قال: صدقت فتكلم. فقال: أمير المؤمنين إنا قدمنا عليك من بلد نحمد الله الذي منّ علينا بك، ما قدمنا عليك رغبة منا، ولا رهبة منك، أما عدم الرغبة فقد أمنّا بك في منازلنا، وأما عدم الرهبة، فقد أمنّا جورك بعدلك، فنحن وفد الشكر والسلام.
> فقال له عمر رضي الله عنه : عظني يا غلام، فقال: يا أمير المؤمنين إن أناساً غرّم حلم الله، وثناء الناس عليهم، فلا تكن ممن يغرُّه حلم الله وثناء الناس عليه فتزلّ قدمك، وتكون من الذين قال الله فيهم:«ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون» فنظر عمر في سن الغلام فإذا له إثنتا عشرة سنة فانشدهم عمر رضي الله تعالى عنه:
> تعلم فيس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم، لا علم عنده