تحقيقات وتقارير

“أُخرج من سياقه” متى تنتهي الخصومة بين الصحافة والحكام؟.. ربما لن يحدث حتى لو ترك الساسة غيرتهم المتوارثة من السلطة الرابعة

لكونهما أمضيا خمسة عقود في زعامة حزبيهما، يظل مفهوما الانقسام حيال الصادق المهدي وحسن الترابي في الحقل السياسي المتداعي، لأسباب يتحمل مسؤوليتها الرجلان مع آخرين بنسب متفاوتة؛ تزيد بناءً عليها، أو تقل شعبية أحدهما عن الآخر، لكنهما في الحقل الصحفي حظيا باحترام لم يتوفر لسياسي آخر، لا لشيء إلا أنه لا يوجد من بين عموم الساسة من احترم الصحافة حتى في وعثاتها – التي كان مردها في أحايين كثيرة ذلكم التداعي السياسي – كما فعل الرجلان دون طمع أو جزع.

1
مهمة الصحافة في تنوير الرأي العام، قبل تشكيله، تجعلها على الدوام -لا سيما في دول العالم الثالث- في مخيلة الحكومة وخصومها معاً توصف بأنها أداة نافذة في يد المعارضة، تعمل لتثوير الرأي العام، لا تنويره، ومن هنا تأتي نظرتا الطمع والجزع اللتان لم تحركا المهدي وصهره في تعاطيهما مع الصحافة، بل اعتمدا واحترما تعريف الصحافيين الأخلاقي لماهية مهنتهم، وليس تعريف الساسة.

2
الحادثة الأكثر تداولاً بالنسبة للمهدي هي السماحة التي رد بها على الكاريكاتيرست هاشم كاروري، الذي تفنن في نقده – أو قل التعريض به – عندما كان إمام الأنصار رئيسا للوزراء في حقبة الديمقراطية الثالثة، لكن الأكثر عمقا ما روي عن لقاء عابر جمع المهدي بالصحافي الراحل محمد طه محمد أحمد؛ حيث أثنى الأول على كتابات الثاني الأدبية، ونصحه بأن يركز عليها أكثر من تركيزه على مناقشة القضايا السياسية، فجاء رد الصحافي الراحل بألمعية عُرف بها وطرفة حاضرة: “أنا الأدب ما بخلي، وقلة الأدب ما بخليها”.

3
بالطبع تلك الانتقادات الموجهة للمهدي عندما كان رئيسا للحكومة، تسمو به، مقابل تحجيم نسبي لدور الترابي؛ المتهم بأن حكومته الإنقاذية الأولى ازدرت الصحافة كما لم تزدرها حكومة من قبل، رغم تبجيله الشخصي لها.

4
بالمقابل لجأ المهدي في حالات نادرة لنفي حديث نسبته له صحيفة أو صحف مجتمعة، لكن زعيم الإسلاميين لم يكذب قط رواية نقلتها عنه الصحف، رغم أنه لو فعل في بعض الحالات لكانت المصداقية من نصيب تكذيبه لما وشت به الصحف.

5
ولا يقتصر احترام الصحافة على الرجلين؛ لكن عندما يتعلق الأمر مثلا بالزعيم الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد فإن طبيعة تنظيمه المشتط في العمل السري، وبقاءه مختفيا عن الأنظار غالب الحقبة التي آلت له فيها سكرتارية حزبه، جعلته على الدوام متحصنا في إحداثيات لا تلتقطها العدسات، ومع ذلك فإن عفة اللسان – التي لم يتميز بها أحد من الساسة كما تميز بها نقد – كان نصيب الصحافيين منها وافراً؛ شأنهم شأن كل الذين التقاهم الرجل في حياته الثمانينية.

6
مما هو متداول في الوسط الصحفي حالة تذمر نادرة من نقد على صحافية أثناء مقابلة في مكتبه بمقر حزبه، سببها أنها سألته إن كان يصلي أم لا؟! لم يتذمر نقد لفظيا، وكل ما فعله أنه غادر مكتبه دون أن يستأذن من الصحافية، ودون أن يطلب منها أن تغادر.. كانت المفارقة أن نقد تركها وذهب ليصلي، دون أن تعلم بذلك، ودون أن يعود لمواصلة الحوار..!!

7
وربما كانت حالة نقد منسوخة بشكل نسبي إلى الميرغني، الذي يصعب تقييم تعاطيه مع الإعلام لأنه شحيح – أو قل زاهد – في الظهور الإعلامي طيلة العقود الثلاثة التي قضاها على رئاسة حزبه، وطيلة العقود الخمسة التي قضاها مرشدا لطائفة الختمية.

8
لا يمكن القول إن الميرغني يحترم الصحافة، مثلما أنه لا يمكن القول إنه يذمها. لكن غالبية مقابلاته في الـ 25 سنة الماضية أجراها مع صحفي واحد لصالح صحيفة واحدة..!!

9
عموما يظل المعارضون هم الأقل شكوى من أن الصحافة أخرجت تصريحهم من سياقه -وهي نادرا ما تفعل ذلك بشهادة التسجيلات الصوتية- عند مقارنتهم بأولئك المتسلحين بالسلطة، غض النظر عن هوية الطرف السلطوي وحزبه؛ لأن المعارضين ما إن يصلوا الحكم إلا وبدلوا نظرتهم إلى الوراقين، خشية (التثوير). وبالطبع لن تنتهي هذه الخصومة حتى لو ترك الساسة عند استلامهم السلطة غيرتهم المتوارثة من السلطة الرابعة..!!

محمد الخاتم
صحيفة اليوم التالي