منى عبد الفتاح : العربي المعاصر مغتربا
مع التنامي الحالي لمجتمعاتنا العربية في ضوء التطورات السياسية والاقتصادية المحلية والعالمية المعقدة والمتشابكة، والتي أثرت بشكل مباشر على التحولات الاجتماعية، تبرز إعادة طرح موضوع الحداثة والهوية.
فعلى مدى طويل ظلت الهوية تمثل الانطلاق متجاوزة المظاهر المادية لتجليات الذات والتي تضاءلت بدورها إزاء التركيبة الثقافية المتجذرة في عمق المجتمع، وتضاؤل الذات لا يعني محوها أو إهمالها بقدر ما يعني أهميتها لكونها نقطة البداية لإنجاز مشروع جماعي يستوعب ذواتا عديدة ومختلفة في نوعها وحجمها ولكنها متسقة في أهدافها.
ومن هنا يمكن الاعتراض على جزء من الفرضية القائلة بأن التنوع الثقافي والاجتماعي مصدر لثراء المجتمعات وسبيل إلى نجاح نهوضها نحو الحداثة. والجزئية الجديرة بالتفكير والتي تحتاج إلى دراسات متعمقة هي أن إشكالية الهوية التي تكون – بالضرورة – مرتبطة بجملة التكوينات الثقافية والسياسية والاجتماعية تكون عرضة للصراعات. ومحفزات الصراع هنا عناصر عديدة ولكن أهمها أن تكون هذه الهوية حديثة التكوين، ويظهر ذلك من عدم انصهار مكوناتها في بوتقة واحدة. العنصر الآخر هو وقوف التباين في التكوين الثقافي والإثني كحائط صد إزاء أي اختراق أو تأثير، وعادة ما تكون الاعتقادات لهذه التكوينات منغلقة على ذاتها، فهي لا تطمح في نشرها خارج إطارها، ولا تسمح بغيرها من دخول حدود هذا التكوين والتأثير على أفراده. ويكون التعبير عن التباين في شكل استعداء الآخر البعيد، مع محاولة استقطاب القريب، ولكن دون كسر للحواجز، ودون تماه للحدود.
ومن هنا نجد أن مجتمعات عربية عديدة، نجح بعضها في الالتحاق بركب الحداثة وفشل الآخر الذي تعمل تكويناته على نفث مضادات لهذه الحداثة، وهي ليست بالضرورة نابعة عن قوة فيما هو موجود وإنما قد ينتج من تعصب له. وهنا يرى المفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري «أن الحداثة لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه (المعاصرة)، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي».
وصلت إشكالية علاقة العرب مع الحداثة – حسب بعض المفكرين الذين تناولوا أزمة الحداثة – إلى نتيجة مفادها أن العربي المعاصر مغترب على الصعيد المجتمعي ولكن عوامل عدة تمنعه من تفهم وضعه وتخفف من حدة اغترابه على الصعيد النفسي الشعوري، مما يجعله يختار الانسحاب والرضوخ بدلا عن الثورة.
والعربي بنظرهم ليس ثائرا لأنه لا يقوى على رفض القيم والاتجاهات والأنماط السائدة في المجتمع العربي لأنه عاجز وقد لا يشعر بذلك تجاه الخارج والداخل، فالمؤسسات الاجتماعية كالدولة والدين والعائلة والمدرسة وغيرها مستقلة عنه ومتعالية عليه ومسيطرة على مصيره ومضادة لحريته، فلا تفسح له مجال الاشتراك في القرارات والأحداث الكبرى التي تقرر مصيره.
وربما لم تذهب هذه النتيجة إلى أبعد من ذلك لأن ما حققه المجتمع العربي بقيام ثورات الربيع العربي قلبت هذه النظرة ظهرا على عقب. وبما أن فعل الثورة لا يتأتى إلى مجتمع مسلوب الإرادة، فإن عوامل أخرى مثل الكبت والضغوط تفاقمت واشتدت وتيرتها حتى خرج المواطن من القوالب التي أرادت مؤسسات الدولة صهره وتعليبه فيها. وإن شذت دول عن هذه القاعدة مثل تلك التي لم تستطع أو أعيقت فيها عملية التغيير فهي بسبب عجز بنيها عن نسف البنى الاجتماعية والاقتصادية السياسية السائدة. فلم يتطور الفعل إلى مستوى الطموح بالتحول الشامل في الثقافة والاتجاهات القيمية وأنماط التفكير، وهذا ما يفسر مخاض الثورة الطويل في بلدان مثل سوريا واليمن، فبحسبان ما يقتضيه الحال كان المفترض أن تبدأ الثورة بحراك اجتماعي قبل السياسي، حتى يكون التغيير من الأساس.