“على السور الجنوبي” في صيوان عزاء الراحل الترابي كان ما يجمع معظم المعزين من القارة السمراء انتماؤهم لجامعة أفريقيا وكانت تحدوهم أشواق إسلامية تنشد الخلاص
في صيوان عزاء الراحل الترابي كان ما يجمع معظم وفود المعزين من القارة السمراء انتماؤهم لجامعة أفريقيا، يذرفون الدمع بألم الشعور باليتم، انقسموا حول تعظيم ذكرى الشيخ، فمنهم من اقترح تشييد مركز بحثي عملاق داخل الجامعة يعتني بكتابات وأفكار الفقيد، ومنهم من نادى بصرح أكاديمي مستقل يقوم بتلك المهمة، على مقربة من ذلك، تداعت خطى تلامذة الترابي، ومديري الجامعة الذين تعاقبوا عليها، حسن مكي وكمال عبيد، وعبد الرحيم علي الذي يقف على سدة معهد اللغة العربية المجاور للسور الجنوبي، ما يمكن ملاحظته أن جيلا من الأساتذة والطلاب الأفارقة تربوا على نهج الشيخ، ولكن ماذا عن جامعة أفريقيا نفسها، صوتها وصيتها في العالم، وما يقلق الدول الأوربية منها؟
رغم أن جامعة أفريقيا العالمية، هي بوابة السودان الكبيرة نحو القارة السمراء، إلا أنها احتفلت بيوبيلها الفضي الأشهر الماضية، في حياء شديد. خمسون عاماً طوتها الجامعة التي أنشئت في العام “1966” بالخرطوم، وطوت معها حقب الجهل والظلام، حيث كانت تستهدف محو آثار الاستعمار الأوروبي، واستنهاض الروح الأفريقية، ونشر الثقافة الإسلامية، لكنها بعد مرور كل تلك السنوات، أصبح العالم الغربي ينظر لها بقلق وريبة.
لم تستنكف جامعة أفريقيا التعبير عن رسالتها التي تسعى لتحقيقها، وهي الدعوة لنشر الثقافة الإسلامية، عبر العمل الأكاديمي، وكانت نواتها الأولى المركز الإسلامي الأفريقي، وتحولت بعد ذلك إلى جامعة شاملة، تستقبل منتسبيها من حوالي 42 دولة أفريقية و25 دولة فيها أقليات مسلمة، مثل الصين والفلبين وتايلاند والبوسنة والهرسك، وحتى أوروبا وأمريكا، وتستقبل آلاف الطلاب من شتى أنحاء العام.
في سبيل ذلك تتبع مناهج تعليمية وبحثية صارمة، يشرف عليها أكاديميون ومفكرون يؤمنون برسالتها، والتي تدعو صراحة إلى إشاعة التوسط والاعتدال، لكن ذلك لم ينجها أيضاً من الاتهام بتغذية التطرف والإرهاب، رغم أنه اتهام لا ينهض دليل راسخ _ كما يرى منسوبوها_، حيث أن كثيرا من الشباب الذين التحقوا بداعش، لم يكونوا من طلاب جامعة أفريقيا، عدا طالب نيجيري يدعى (أمينو صادق أوقوشي) تم توقيفه عبر الإنتربول بتهمة التورط بتفجيرات العاصمة النيجيرية أبوجا في أبريل_ نيسان (2014)، وتمت تبرئته لاحقاً في بلاده، وفتاة أخرى طالتها الشبهات فقط.
يقول مدير الجامعة السابق الدكتور حسن مكي إن جامعة أفريقيا العالمية تتميز عن بقية الجامعات السودانية بأنها ذات طبيعة خاصة، حيث أنها لم تُنشأ من أجل الطلاب السودانيين، وإنما من أجل الطلاب الأفارقة، ويضيف مكي: “هي للتكفير عن الخطيئة التي ارتكبها الأوروبيون بممارسة تجارة الرقيق”.. وعوضاً عن الاستبعاد تستوعب الجامعة الطلاب وتعيدهم إلى بلدانهم متحررين من الجهل، قادة ومهندسين وأطباء، ويصفها بأنها “مشروع إنساني وأخلاقي وثقافي”.. نافياً أن تكون جامعة أفريقيا مأوى للإرهاب، ويقول: “بالعكس هي تنشئ طلاباً معتدلين ومتفهمين لمتطلبات الحياة في بلدانهم” ويضرب مثلاً بالحكومة الصومالية التي تخرج معظم قادتها في جامعة أفريقيا، وكيف تقف في وجه حركة الشباب المتشددة وتقاوم العنف، كما أن خريجيها في نيجيريا ومالي أصبحوا يعرفون كيف أن القيادة عامل توزان وتهدئة..
يحصي مكي قادة ومشاهير تخرجوا في جامعة أفريقيا العالمية، من بينهم لاميدو سنوسي أمير _ كانو _ وهو أحد أكثر المناصب تأثيرا في شمال نيجيريا ذي الأغلبية المسلمة، بجانب وزير الداخلية الصومالي عبد الرحمن حسين أدوا، والدكتور أمبايو رئيس دراسات الشرق الأدنى في جامعة ديوك الأمريكية، ووزير التعليم في غامبيا، وعشرات المسؤولين في أفريقيا والحيز المغربي.
تعتمد جامعة أفريقيا العربية لغة للتدريس، مع إجازة استخدام الرموز الأجنبية للتعبير عن بعض المصطلحات العلمية، فضلاً عن اعتمادها الإنجليزية لغة مساعدة للتدريس بكلية الطب، بجانب ذلك تدرس جميع التخصصات النظرية والتطبيقية، ويعاني عديد طلابها الوافدين من استخدام العربية في التدريس، حيث أن أغلبهم يتحدثون الإنجليزية والفرنسية، ولذلك يقضي الطالب عاما وربما أكثر في تعلم العربية قبل الانتقال إلى التخصص.
وبالنسبة لمواردها تعتمد بشكل أساسي على الموارد الذاتية، ومن ثم المنح ومساهمات الدول العربية، ورغم أن الحكومة نفت تماماً احتضان الجامعة للمتطرفين، إلا أن فرنسا وأمريكا تنظران لها بعين القلق.. في العام المنصرم بعثت صحيفة (اللوموند) الشهيرة الصحفي “جون تيلون” للتقصي عن طبيعة الجامعة والمناهج، وخرجت بعيد ذلك بتقرير حمل عنوان (الخرطوم تؤسلم أفريقيا)، تيلون غبر أقدامه في فناء الجامعة وقرأ ما يعتمل خلف الأسوار، دون أن يشعر بالخوف الذي جال بخاطره وهو يحلق في سماء أفريقيا.
يقول الكاتب والباحث الأكاديمي خباب النعمان إن جامعة أفريقيا إحدى أهم المشروعات التي تتجلى فيها روح اﻷممية الإسلامية، بجانب أنها تمثل سلوكاً تعويضياً عن الإهمال الذي قوبلت به أفريقيا، ويضيف خباب: ما لفت ناظري أن المركز الإسلامي تم إنشاؤه منذ سنة “77” أي قبل نشوب الثورة اإيرانية والتأثر بنظرية تصدير الثورة، وهذا يعني أن الفكر الحركي السوداني توسعي وعابر للدول منذ وقت مُبكر.
يرى خباب أن المركز الإسلامي الذي كان نواة للجامعة لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما تطور الى جامعة أفريقيا العالمية التي استقطبت أموالا أجنبية كثيرة، وطلابا من شتى الأمصار بلغت 80 دولة في أفريقيا وآسيا، واستطاعت أن تطور أنظمة تعليمية راسخة، وقد لفت نظر خباب بعض المشروعات التي نفذتها الجامعة، أهمها المطبعة ودار مصحف أفريقيا، والداخليات والملاعب، وقاعة أفريقيا للمؤتمرات والمسجد الكبير_ تحت اﻻنشاء_ بتكلفة مليوني دولار، وقد بدأ خريجو الجامعة مرحلة النبوغ في بلدانهم، وتسنموا عديدا من مواقع التأثير والقرار. ويأمل الكثيرون من جامعة أفريقيا أن تسهم بشكل أكبر في نشر الوعي والتعاليم الإسلامية في أنحاء العالم وأفريقيا على نحو خاص، لكن فوبيا الإرهاب التي تشتعل في الغرب، ربما تريد أن تنظر لها على ذلك النحو الذي تراه.
عزمي عبد الرازق
صحيفة اليوم التالي