حدائق الرقائق
يروى أن رجلاً جاء إلى الإمام أبى حنيفة ذات ليلة، وقال له: يا إمام! منذ مدة طويلة دفنت مالاً في مكان ما، ولكني نسيت هذا المكان، فهل تساعدني في حل هذه المشكلة؟ فقال له الإمام: ليس هذا من عمل الفقيه؛ حتى أجد لك حلاً. ثم فكرلحظة وقال له: اذهب، فصل حتى يطلع الصبح، فإنك ستذكر مكان المال إن شاء الله تعالى.فذهب الرجل، وأخذ يصلي. وفجأة، وبعد وقت قصير، وأثناء الصلاة، تذكر المكان الذي دفن المال فيه، فأسرع وذهب إليه وأحضره.وفي الصباح جاء الرجل إلى الإمام أبى حنيفة ، وأخبره أنه عثر على المال، وشكره ، ثم سأله: كيف عرفت أني سأتذكر مكان المال ؟! فقال الإمام: لأني علمت أن الشيطان لن يتركك تصلي ، وسيشغلك بتذكر المال عن صلاتك.
(1)
كان طلحة بن عبدالرحمن بن عوف أجود قريش في زمانه. فقالت له امرأته يوماً: ما رأيت قوماً أشدّ لؤْماً منْ إخوانك. قال : ولم ذلك ؟ قالت : أراهمْ إذا اغتنيت لزِمُوك ، وإِذا افتقرت تركوك. فقال لها : هذا والله من كرمِ أخلاقِهم ! يأتوننا في حال قُدرتنا على إكرامهم.. ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بِحقهم. علّق على هذه القِصة الإمام الماوردي فقال : انظر كيف تأوّل بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فِعلهم حسنا ، وظاهر غدرِهم وفاء
(2)
دخل ابو دلامة على المنصور فأنشده :
رأيتك في المنام كسوت جلدي
ثيابا جمة وقضيت ديني
فكان بنفسجي الخزّ فيها
وساج ناعم فأتم زيني
فصدق يا فدتك النفس رؤيا
رأتها في المنام كذاك عيني
فأمر المنصور له بما أراد أو ما رأى في المنام وقال له منبها : لا تعد فتتحلم عليّ ثانية فأجعل حلمك أضغاثا ولا أحققه
(3)
تحدى أحد الملحدين- الذين لا يؤمنون بالله- علماء المسلمين في أحد البلاد، فاختاروا احدهم ليرد عليه، وحددوا لذلك موعدا.وفي الموعد المحدد ترقب الجميع وصول العالم، لكنه تأخر. فقال الملحد للحاضرين: لقد هرب عالمكم وخاف، لأنه علم أني سأنتصر عليه، وأثبت لكم أن الكون ليس له إله !وأثناء كلامه حضر العالم المسلم واعتذر عن تأخره، تم قال: وأنا في الطريق إلى هنا، لم أجد قاربا أعبر به النهر، وانتظرت على الشاطئ، وفجأة ظهرت في النهر ألواح من الخشب، وتجمعت مع بعضها بسرعة ونظام حتى أصبحت قاربا، ثم اقترب القارب مني، فركبته وجئت إليكم. فقال الملحد: إن هذا الرجل مجنون، فكيف يتجمح الخشب ويصبح قاربا دون أن يصنعه أحد، وكيف يتحرك بدون وجود من يحركه؟!فتبسم العالم، وقال: فماذا تقول عن نفسك وأنت تقول: إن هذا الكون العظيم الكبير بلا إله؟!
(4)
كان عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- معروفا بالحكمة والرفق، وفي يوم من الأيام، دخل عليه أحد أبنائه، وقال له: يا أبت! لماذا تتساهل في بعض الأمور؟! فوالله لو أني مكانك ما خشيت في الحق أحدا.فقال الخليفة لابنه: لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في المرة الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه (أي أخاف أن أجبرهم عليه مرة واحدة فيرفضوه) فتكون فتنة.فانصرف الابن راضيا بعد أن اطمأن لحسن سياسة أبيه، وعلم أن وفق أبيه ليس عن ضعف، ولكنه نتيجة حسن فهمه لدينه.
(5)
كان عبد الله بن المبارك عابدا مجتهدا، وعالما بالقرآن والسنة، يحضر مجلسه كثير من الناس؛ ليتعلموا من علمه الغزير.وفي يوم من الأيام، كان يسير مع رجل في الطريق، فعطس الرجل، ولكنه لم يحمد الله. فنظر إليه ابن المباوك، ليلفت نظره إلى أن حمد الله بعد العطس سنة على كل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن الرجل لم ينتبه.فأراد ابن المبارك أن يجعله يعمل بهذه السنة دون أن يحرجه، فسأله: أي شىء يقول العاطس إذا عطس؟فقال الرجل: الحمد لله!عندئذ قال له ابن المبارك: يرحمك الله
(6)
خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ذاهبا إلى بلاد الشام، وكان معه بعض الصحابة.وفي الطريق علم أن مرض الطاعون قد انتشر في الشام، وقتل كثيرا من الناس، فقرر الرجوع، ومنع من معه من دخول الشام.فقال له الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟فرد عليه أمير المؤمنين: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!ثم أضاف قائلاً: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن لك إبلا هبطت واديا له جهتان: إحداهما خصيبة (أي بها زرع وحشائش تصلح لأن ترعى فيها الإبل)، والأخرى جديبة ، أليس لو رعيت في الخصيبة رعيتها بقدر الله، ولو رعيت في الجديبة رعيتها بقدر الله؟
(7)
طلب أحد الخلفاء من رجاله أن يحضروا له الفقيه إياس بن معاوية، فلما حضر الفقيه قال له الخليفة: إني أريد منك أن تتولى منصب القضاء. فرفض الفقيه هذا المنصب، وقال: إني لا أصلح للقضاء. وكان هذا الجواب مفاجأة للخليفة، فقال له غاضبا: أنت غير صادق. فرد الفقيه على الفور: إذن فقد حكمت علي بأني لا أصلح. فسأله الخليفة: كيف ذلك؟فأجاب الفقيه: لأني لوكنت كاذبا- كما تقول- فأنا لا أصلح للقضاء، وإن كنت صادقا فقد أخبرتك أني لا أصلح للقضاء
(8)
من أروع قصص التراث العربي، قصة (جابر عثرات الكرام )التي تحمل في طياتها معاني الجود والكرم والإيثار وعزة النفس وإغاثة الملهوف فقد كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجلٌ يقال له (خُزيمة بن بشر)من قبيلة بني أسد .
وكان صاحب مروءة وكرم وفضل…..ولم يزل على تلك الحال حتى ضاقت عليه الدنيا، واحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم فيما مضى من الأيام فواسوه وأحسنوا إليه أياما وأسابيع ثم ملّوه وتخلوا عنه، فلما رأى تغيرهم عليه، حزن كثيراً ولزم بيته.
وكان الوالي في تلك الأيام رجل إسمه (عكرمة الفيّاض الرّبعيّ) وبينما هو ذات يوم مع أصدقاءٍ له يتسامرون ويتحدثون، إذ جرى ذكر (خزيمة بن بشر) وكان عنده عدد من وجوه البلد فقال عكرمة: ما حاله-أي خزيمة-؟
فقالوا: لقد صار من سوء الحال إلى شئٍ لا يوصف، ولزم بيته من شدة الضيق. فقال عكرمة: ألم يجد من إخوانه مواسٍ ولا مُكافئ ؟ قالوا : لا
فصمت عكرمة، وأمسك على ما في نفسه .
فلمّا كان في الليل، أخرج من ماله أربعة الآف دينار فجمعها في كيس، ثم خرج متخفيّاً حتى وصل دار (خزيمة بن بشر)، فقرع الباب، فخرج خزيمة بعد هدأةٍ من الليل، فقال له خزيمة: من أنت؟ فناوله الكيس، وقال له : أصلح بهذا حالك . فقال له : من أنت، جُعِلتُ فداءَك؟
فقال له عكرمة : ما جئتُ في هذه الساعة وأنا أُريد أن تعرفني!
قال خزيمة: ما أقبله، أو تُعَرِّفني من أنت؟
فقال عكرمة: أنا… أنا…»جابر عثرات الكرام»
قال خزيمة: زدني معرفة بك؟ قال عكرمة: لا ….ثم مضى
وفي صباح اليوم التالي، قام عكرمة وأصلح من حاله، وقام بتسديد الديون التي عليه و جهز نفسه يريد الذهاب إلى سليمان بن عبد الملك بفلسطين فلما جاءه وسلم عليه قال سليمان: يا خزيمة، ما أبطأك عني؟
قال: سوء الحال. قال سليمان: ما منعك من النهوض إلينا؟
قال: ضعفي عنها. قال سليمان: فبِمَ نهضتَ؟
قال عكرمة: يا أمير المؤمنين، كنت في هدأة الليل، وإذا رجلٌ قد وقف بباب بيتي، فكان منه كذا وكذا….وأخبره القصة
قال سليمان : هل تعرفه؟ قال: ما عرفته يا أمير المؤمنين، وذلك أنه كان متنكراً.
فتأسّفَ سليمان على عدم معرفته….وقال: لو عرفناه، لأعَنّاهُ على مروءته، وأكرمناه . وقام سليمان بن عبد الملك بتعيين خزيمة أميراً على الجزيرة، مكان عكرمة الفيّاض.
ومضى خزيمة إلى الجزيرة، وأصبح والياً عليها…..ثم وجد أن هناك ديوناً كثيرة على عكرمة الفيّاض، فبعث إليه في أدائها فقال عكرمة: ما لي إلى شئٍ منها سبيل، ما هي عندي، واصنع ما أنت صانع.
فأمر أن يُكَبّلَ بالحديد، فأقام على ذلك شهراً. فعلمت بذلك إمرأةُ عكرمة، فأرسلت جاريتها لتقول للوالي: ما هكذا جزاءُ (جابر عثرات الكرام) منك، كافأته بالحبس والضيق والحديد.
فصاح خزيمة: وا سَوأتاه! وإنّه لَهُوَ….؟؟؟
فقالت: نعم ثم ذهبت. وبعث خزيمة إلى وجوه أهل البلد، فجمعهم، ثم خرج بهم إلى الحبس فلما رآه السجّان قام إليه مذعوراً فقال له : إفتح ففعل، فدخل هو ومن معه، فوجد عكرمة في ساحة الحبس قد أصابه الضُر فأكَبّ خزيمة على رأس عكرمة يُقَبِّلُهُ.
فرفع عكرمة رأسه إليه وقال: ما الذي دعاك لمثل هذا؟ قال خزيمة: كريمُ أفعالك، وسوءُ مُكافأتي. قال: يغفر الله لنا ذلك
فأُتي بالحداد، ففكّ القيود من رجليه، وأمر أن تُطرح في رجليه هو-أي خزيمة . فقال عكرمة: تُريد ماذا؟
قال خزيمة: أريد أن ينالني من الضُرّ والحبس كمثل ما نالك
قال عكرمة: والله لا كان ذلك، فخرجوا جميعاً. وطلب الوالي خزيمة من عكرمة الفياض أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك فقبل.
فاما وصلا عنده، قال سليمان للوالي:ما أقدمك؟ قال خزيمة: وجدتُ(جابر عثرات الكرام)، وأحببتُ أن أسُرّكَ به لما رأيتُ من تَلَهُفِكَ عليه.
قال: ومن هو؟ قال: (عكرمة الفيّاض) فقال سليمان: ما كان خيره منك إلا وبالاً عليه، فسلّم عليه، ورحّبَ به، وأدنى مجلسه ثم قال: يا عكرمة، إرفع حوائجك كلها. قال: إعفني يا أمير المؤمنين . قال: لا بُد.ّ
ثم دعا سليمان بدواةٍ وقرطاس، وقال: إعتزل ناحية، واكتب جميع حوائجك…ففعل، ثم أتاه برقعة فوقّعَ عليها: تُقضى حوائجه
ثم أمر له بعشرة الآف دينار ثم عَيّنه أميراً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وقال له: أمرُ خزيمة لك إن شئتَ فاعزله، وإن شئتَ فاتركه في عمله فقال: بل أزيده عملاً إلى عمله يا أمير المؤمنين.