مقالات متنوعة

مى عبد الفتاح : قل لي كم تقرأ أقل لك من أنت

منذ أن قدّرت مؤسسة الفكر العربي قبل سنوات قليلة، أنّ معظم الناس في المنطقة يخصّصون أقلّ من ست دقائق في السنة لمطالعة كتاب، والعالم العربي ما زال يقف مستنكراً اتهامه بالجهل حتى وإن كان قد تحلّل من أزمة الأمية بشكلٍ نسبي.

منذ ذلك الوقت ومؤسسات الفكر ومبادرات الناشطين تحاول إعادة القراءة إلى العربي الذي كان نهِماً فيما قبل. فقامت بعض المشاريع للعودة إلى القراءة، ولكن واجهت هذه النوايا الحسنة، أحداثٌ كثيرة أهمها اشتعال المنطقة بثورات الربيع العربي، ثم مخاض الديمقراطية الطويل في عدد منها وبعد ذلك الانقلاب على الديمقراطيات المتحققة بشقّ الأنفس، وتواصل الحروب والفوضى العارمة التي يغوص فيها الآن الوطن العربي من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه.

هذا الهمّ العام بتدني مستوى القراءة، ليس محصوراً في المنطقة العربية وحدها وإنّما هي ظاهرة عالمية تتفاوت من دولة إلى أخرى، لأسباب شتى. وبينما تُرجّح هذه النسبة الضئيلة للقارئ العربي بأنّها تعادل ربع صفحة سنوياً، يصل معدل قراءة الأمريكي إلى 11 كتاباً، والبريطاني سبعة كتب في العام. وفي الولايات المتحدة استشعر الناس أيضاً أزمة القراءة، فانطلق أكثر من 10,000 متطوع إلى مدنهم وقراهم مزودين بـ 500,000 كتاب في إطار أنشطة مصحوبة بفعاليات لتشجيع القراءة، استهدفت غير القراء لتحويلهم إلى قراء. وبالطبع وصلت إلى الناس والمؤسسات واعتمدت على التبرعات والدعم الكبير من الشخصيات المختلفة لكي ينجح المشروع.

بعد كل هذا المجهود على مستوى العالم الغربي والعربي، فإنّ بطل هذه المبادرات والمشاريع كلها والمستهدف الأساسي، والذي تجده حاضراً في الفعاليات وأيام النشاط هو القارئ المُرتقب، الذي ما إن ينفض سامر هذه المهرجانات بكل أشكالها إلّا ويكون قد ذهب مع الريح.

ولعل هناك أسباب عديدة لهذه الحالة قد لا تبرّر كل هذا الغياب للقارئ ولكنها واقعية على كل حال. تتفاوت الأسباب في قلة القراءة ما بين الرفاهية الشديدة التي باتت تبجّل المظهر والمحسوس وتغيّب العقل وتغذية الفكر، وبين الفاقة والحاجة لكل دقيقة يستثمرها الإنسان في العمل وكسب الرزق. ولتلاشي الاهتمام بالقراءة تلتقي كل هذه الحالات في شيء مشترك هو الانشغال حتى النخاع بوسائل التواصل الاجتماعي واجتياحها لوقت العمل وأوقات الراحة والفراغ القصير الذي كان يتم ملؤه من قبل بالقراءة، وهو ميلٌ كبير نحو المعلومات المعلبة والمتداولة في هذه الوسائل، دون أن تحقق فائدة ملموسة. هذا بالإضافة إلى تحول العالم إلى مارد مادي واستهلاكي قبيح لا يفهم غير لغة المال وصرفه فيما يفيد ولا يفيد حتى تساوت الضروريات مع توافه الأمور.

والحال هكذا فإنّ هذا الأمر يستلزم قبل تجهيز الكتاب وتنشيط صناعة النشر، أن يتم تجهيز القاريء. ولأنّ هذا الأساس تتعلق به كثير من التفاصيل الأخرى التي لم تظهر بين ثنايا هذه الإضاءة عن وضع القاريء، إلّا أنّه بين السطور غير المرئية تكمن الكثير من الدلالات. فما وقفت عنده هو السؤال الذي بات أزلياً: ما هي المقاييس الحقيقية للقارئ؟ هل بمجرد القراءة أم أن يعيها حقّاً، وهل يذهب الوضع إلى تفاؤل أكثر ليحوّل القارئ من كسولٍ يقرأ على مضض إلى قارئ صفوة.

وإلى أن يتحقق ذلك ويصبح الإطلاع هو بحث عن المعرفة، وتكون أسنّة أقلام الكتاب بوصلة تهدي إلى رجاحة المنطق ووضوح الحجة، سيظل القارئ مدفوعاً دفعاً نحو القراءة، وهذه حقيقة ولكن وإلى أن يحين أجل أن يختارها طائعاً وعن حب ستكون -إن تحققت- مجرد قراءة قد تحتفي بالمعرفة وقد لا تفعل.

لعباس العقاد قطعة نثرية فريدة يتحدث فيها عن حبه للقراءة، جاء فيها: “كلا، لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأنّ عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة”.