منى سلمان

ودع قوم سيب الخرطوم


في رحلتنا لقضاء العيد في الجزيرة المطرانة ومروية، فارقنا طريقنا القديم واتخذنا من طريق شرق النيل الجديد مسارا تبعا لمحبة تجريب الجديد الشديد .. حقيقة ابداع لا يضاهيه ابداع .. خضرة .. هدوء وسكينة .. طبيعة ساحرة .. والدعاش والغيم رزازا الفي العصير بلل قزازنا !

آلاف الكيلومترات الخضراء تمتد على مد البصر لا تجد فيها غير (الخلا والشجر)، جعلتني اردد مقولة عادل امام (سايبين الشقة وقاعدين في أوضة) .. سكان الخرطوم التي بلغ سعر المتر المربع في بعض نواحيها المليون بـ (القديم)، وبعضها تجاوز المحلي جديده وقديمه وصار المتر فيها بـ(الدولار) !!، تزاحموا وتناطحوا وتدافعوا حتى حدود الصحراء الكبرى غربا ودار جعل شمالا، وتركوا كل هذا الوساع والبراح والريف الجميل ..

حياة الريف التي يتمناها أهل الحضارات والمدنية، ويدفع في سبيلها اثرياء الانجليز دم القلوب .. فـ فوق الهواء النقي والطبيعة الخلابة والهدوء الجميل، يقول العلماء أن سكان الريف يتمتعون بصحة عقلية أفضل من سكان المدينة، فقد وجدوا بأن حياة المدينة أكثر ضرراً على الصحة العقلية من الحياة في الريف، ونسبة الاضطرابات العقلية الشائعة بين سكان الحضر لا يعاني منها اهل الريف، حيث يحتفظ سكانه بصحة عقلية أفضل من نظرائهم الذين يسكنون المدن ..

هروبنا الجماعي من اريافنا وقرانا نحو ضوضاء الخرطوم واكوام القمامة واسراب البعوض والذباب والحر البفسخ، يذكرنا بأن الاضطرار لركوب الصعب غالبا ما يكون هربا من (الاصعب منه) .. انعدام ابسط مقومات العيش من خدمات الماء والكهرباء مع التعليم والصحة، هي الشديد القوي الذي اجبر الناس على هجر نعيم جنان قراهم واريافهم إلى هجير سموم الخرطوم!!

كل هذه الرمية الطويلة، كانت تداعيات لخواطر راودتني بعد مطالعتي لتقارير تم تداولها في الفترة الماضية .. تقارن تلك التقارير بين أسعار الأراضي في العاصمة المثلثة مقارنة بمستوى الدخل الفردي، وكيف انها اغلى من اسعار الاراضي في مدن عالمية وعربية مثل ابو ظبي ونيويورك وغيرها، وهي مدن لا يمكن المقارنة بينها وبين عاصمتنا لا من ناحية الخدمات ولا الجماليات ناهيك عن الكماليات .. – الا انني احسب ان العلة تفاقمت بسبب استعمال الاراضي كغرض أو سلعة تجارية تصلح للاستثمار والمضاربة، وحفظ المدخرات على طريقة (احفظ مالك) التي كانت تجمد بها النساء مدخراتهن لساعة حاجة ..

تحول الاراضي لسلعة تتحرك اسعارها حركة موازية لاسعار العملات الحرة في السوق الموازي، أدى إلى صعوبة تقارب احلام زلوط في تملك المواطن المسيكين لسكن يغنيه عن ذل ومرمطة الايجارات .. !! فقد استخدمت الأرض في غير أغراضها وأصبحت وسيلة من وسائل التجارة وادخار الأموال وهذا لن يستفيد منه إلا أصحاب الأموال الطائلة، أما الفقراء ومحدودو الدخل فليس لهم نصيب حتى في التفكير في امتلاك سكن، وبالرغم من أننا نعيش وضعاً نعاني فيه من تفاقم البطالة والفقر وتبعاتهما، نلاحظ انه ليس هناك اي تحرك لإصلاح هذا الوضع، أو افكار لتحفيز الاستثمار في الصناعة والإنتاج بدلاً عن تجارة الأراضي، التي لا تقدم أي شيء ايجابي في الحركة الاقتصادية للبلد، بل هي عبارة عن انتقال للأرض من يد إلى يد بقيمة أعلى بشكل يومي حتى صرنا ننام لنستيقظ كل يوم على ارتفاع جديد ..

غايتو لو سمحت لي جهات الاختصاص باسدائها نصيحة ماركة نصائح (البصيرة أم حمد) لأفتيت بأن تبقى الأراضي ملكاً لـ ناس الحكومة، ويتم تفعيل الخطط الاسكانية بصورة يتم منحها للمواطن بعد استكمال جميع خدماتها لينتفع بها، ولا يسمح له ببيعها أو المتاجرة بها إلا بعد بنائها، وذلك لان انتقال الاراضي من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة ثم مباشرة لسوق السماسرة الاسود، جعلت منها مسرحا للمضاربات والتجارة وأصبح سعرها يتضاعف بشكل غير معقول ولا منطقي، مما اسهم في تعزيز الشرخ في الاخدود الاجتماعي العظيم .. أصبح الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً ولا توجد منطقة وسطى بين جنة هؤلاء وجحيم اولئك، مما يرجع بنا لدعوة (حرد) نحرض فيها بعضنا البعض بـ (ودع قوم سيب الخرطوم .. يللا بارحا) ..

(أرشيف الكاتبة)