الصادق الرزيقي

لماذا يؤيد أهل دارفور خيار الولايات؟.. «1-3»

> خلال زيارة السيد رئيس الجمهورية الحالية لولايات دارفور، وتبقت منها ولاية جنوب دارفور التي يصلها الرئيس صباح اليوم وغداً شرق دارفور، تلاحظ بلا مواربة التأييد المسبق والكاسح لخيار الولايات قبل بدء التصويت في الاستفتاء الإداري، وذلك من خلال هتافات الجماهير في اللقاءات العامة في الميادين والساحات والطرقات والاجتماعات النوعية بالقيادات الشعبية الاجتماعية والسياسية والأعيان وزعماء القبائل ورموز المجتمع، فلماذ يؤيد أهل دارفور هذا الخيار وينفرون من خيار الإقليم؟..
> الإجابة ليست عسيرة عن هذا السؤال، فهي مرتبطة بعوامل مختلفة تاريخية وسياسية واجتماعية عميقة الجذور، فدارفور عاشت حقب مختلفة ومرت بأنماط للحكم وطرائق إدارية متنوعة كان قوامها في الأساس مركزة السلطة وعدم تنزيلها إلى مستويات أقل بسلطات وصلاحيات واسعة، وذلك منذ قيام السلطنات القديمة من سلطنة التنجر وسلطنة الداجو وسلطنة المساليت وسلطنة الفور التي فرضت نفوذها على أجزاء كبيرة من المنطقة، ثم عرفت نظام الحواكير ومناطق سيطرة ونفوذ القبائل في نظامها الأهلي المستقل بدرجة كبيرة، حتى جاء عهد الاستعمار في فترة الحكم التركي المصري وعهد المهدية ثم عهد السلطان علي دينار، فالحكم الإنجليزي المصري، ثم العهد الوطني، حيث كانت مديرية دارفور وحدة سياسية وإدارية واحدة شهدت تقسيماً لمديريتين قبيل الحكم الإقليمي في عهد مايو في العام1980م واستمر نظام الإقليم بوجود محافظتين في شمال وجنوب دارفور إلى ولاية دارفور والمحافظات المتعددة، حتى قيام الحكم الاتحادي في العام 1994م في عهد الإنقاذ حيث صارت ثلاث ولايات ثم قسمت إلى خمس ولايات عقب اتفاقية الدوحة.
> وخلال هذا التاريخ الطويل ظلت مكونات دارفور السكانية تنزع وتجنح إلى الشعور بالاستقلالية في إدارة الشأن المحلي نسبة إلى طبيعة المجتمع ونظام الحواكير وديار القبائل، وشعرت أنحاء كثيرة من دارفور خلال فترات الحكم الوطني خاصة بعد الحكم الإقليمي في عهد مايو ونتيجة لصراعات الاتحاد الإشتراكي وطوائف عديدة داخل مؤسسات الحكم وخارجه، بحاجتها إلى التعبير عن تطلعاتها السياسية واحتياجاتها التنموية وملء الفراغ النفسي الجمعي للقبائل الذي خلفه غياب الإدارة الأهلية التي حلت خلال العهد المايوي وضمور الإحساس بالكينونة الاجتماعية والحواكير.
> ومثَّل انتشار الوعي السياسي والتعليم وبروز أجيال جديدة من القيادات السياسية، عاملاً إضافياً في نشدان وطلب التمثيل السياسي وتوسيع دائرة المشاركة وتوفير الخدمات، كما عجز نظام الحكم المحلي بشكله القديم عن تحقيق رغبات المواطنين مع ظهور تحديات جديدة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي بتزايد الحاجة لضبط الأمن، لتنامي ظاهرة النهب المسلح ومضاعفات الحرب التشادية – التشادية والحرب الليبية – التشادية مطلع عقد الثمانينيات وظهور التمرد في جنوب السودان بقيادة جون قرنق، وأدى ذلك لانتشار السلاح في أيدي المواطنين واحترار الصراعات القبلية.
> وتطلب كل مع كل هذه العوامل المتضافرة، التفكير بعمق في نظام إداري، ينقل السلطة إلى مستوى أقرب للمواطنين لمعالجة قضاياهم وتوفير احتياجاتهم وضبط الأمن وتوفيره مع سرعة اتخاذ القرار الذي ظل ممركزاً في عاصمة الإقليم بالفاشر، وفطنت الإنقاذ في سنواتها الأولى إلى تلك العوامل التي أحكمت حلقاتها وقادت إلى اعتماد الحكم الاتحادي في السودان كله لمعالجة اختلالات وعلل ومشاكل الحكم والإدارة بالبلاد وفي مقدمتها دارفور.
> لاتساع هذا الجزء من السودان ومشكلاته ونسبة السكان العالية، حيث يبلغ تعداد السكان ما يقارب الثمانية ملايين ونصف المليون مواطن، ومع وجود حدود طويلة وتداخلات قبلية وسكانية مع إفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا، وأخيراً جنوب السودان، وأثبتت التجربة العملية أن نظام الولايات هو الأصلح لإدارة وحكم دارفور التي تزيد مساحتها عن مساحة دولة عظمى مثل فرنسا، حيث شعرت المجموعات السكانية بالرضى والإنصاف في الولايات الثلاث، ثم الخمس، وعالج تقصير الظل الإداري ووجود حكومات ولائية ولجان أمن في كل ولاية ومحلية الكثير من المشكلات الأمنية والإدارية والخدمية، وتوسعت المشاركة السياسية في الحكم، وتوزعت السلطات والأموال والإيرادات والموارد بشكل فيه نوع من العدالة والرضى لم يكن متوفراً من قبل، وخفت الصراعات السياسية المستندة على التصنيف والولاء القبلي والتحيزات والاصطفافات العرقية والمناطقية التي كانت سائدة وسط الطبقة السياسية أيام الإقليم ومؤسسات الحكم الإقليمي.
نواصل…