انحاز الجيش إلى حقن الدماء.. انتفاضة (أبريل) ثورة بطلها الشعب
قبل (31) عاماً في مثل هذا اليوم شهدت البلاد مولد انتفاضة (أبريل) في عام 1985 التي انطلقت ضد نظام رئيس السودان الأسبق “جعفر نميري”، وقد سبقت هذه الانتفاضة إرهاصات سياسية قادت إلى تعقيد المشهد الذي كان معقداً أصلاً، حيث سبق اندلاعها تدهور الوضع الاقتصادي وقوانين سبتمبر في العام 1983 وإعدام “محمود محمد طه” في 13 يناير 1985 الذي أدى إلى توتير الأجواء السياسية، كما واصل نظام “نميري” في تقلباته التحالفية، حيث انقلب في آخر أيامه على الإسلاميين بعد تقاربه معهم وإشراكهم في السلطة، ونتيجة لذلك نقل بعضهم، كان في مقدمتهم الراحل دكتور “الترابي” إلى سجن (شالا) بدارفور، وقادت هذه السياسة إلى توحيد الممتعضين على النظام ومن ثم تدهور الأوضاع واندلاع التظاهرات التي عمت العاصمة، وكان ذلك في الأسبوع الأخير من مارس 1985 وانتقل المتظاهرون للشوارع وفقدت القوات المسلحة والشرطة السيطرة عليهم.
اتحادات الطلاب والنقابات كانت رأس الرمح في نجاح الانتفاضة، ووفقاً لحديث “ساطع الحاج” الذي كان عضواً باتحاد التحالف السياسي لدورة 1984م في وقت سابق فإن اتحاد طلاب الخرطوم شرع مع آخرين في تأسيس التجمع النقابي ووقع على ميثاقه، وممثلو النقابات كانوا هم أساتذة جامعة الخرطوم والمحامون والأطباء والصيارفة والمهندسون والتأمينات الاجتماعية، واتحاد طلاب جامعة الخرطوم. واعتقد “ساطع” أن التجمع النقابي كان أول نواة حقيقية لتنظيم القوى السياسية لمواجهة إسقاط نظام “نميري”، كذلك هناك شواهد موثوقة تشير إلى مشاركة اتحاد الجامعة الإسلامية ومعهد كليات التكنولوجيا في انتفاضة (أبريل).
قد تبدو أدوار صانعي انتفاضة (أبريل) 1985 غير واضحة لبعض المتابعين خاصة الأحزاب السياسية، لكن حسب إفادات اللواء معاش “فضل الله برمة ناصر” الذي كان ضابطاً في القوات المسلحة حينها، فإن الانتفاضة شاركت فيها كل تنظيمات قوى الإجماع الوطني ممثلة لكل القوى السياسية بجانب القوى النقابية والقوات المسلحة التي كان دورها مسانداً للانتفاضة.
وعدّ “برمة” مسيرة الأطباء التي جابت شارع القصر وكان أبرز المشاركين فيها دكتور “الجزولي دفع الله”، عدّها الشرارة الأولى لبداية الانتفاضة مقابل مسيرة هزيلة سيرها مؤيدو نظام مايو، ومن ثم كان نشاط اتحاد طلاب الجامعة الإسلامية الذي قام بحرق جمعية “ود نميري”، وقال إن الطلاب كانت وراءهم القوى السياسية، فالسيد “الصادق” كان قد دعا للإضراب في خطبة آخر جمعة، وشارك الإسلاميون في الانتفاضة لكن قياداتهم لم تشارك نتيجة للاعتقالات التي طالتهم في آخر أيام النظام.
وسرد “برمة” لـ(المجهر) ما حدث داخل مؤسسة الجيش قبل اتخاذ قرار الانحياز للشعب، فقال: (بدأنا الاجتماعات كعسكريين لتقييم الوضع الذي كنا نراقبه بدقة، وكان عندئذ قائد منطقة الخرطوم اللواء “محمد أحمد الجعلي” ومنطقة أم درمان اللواء “عبد العزيز الأمين” ومنطقة بحري اللواء “فضل الله برمة ناصر” ومنطقة الشجرة اللواء “حمادة عبد العظيم” ووادي سيدنا اللواء “عثمان الأمين”، وكنا نتشاور فيما يجري لوطننا وننقل للعساكر بالقدر الذي يفهمونه).. وبدوره سبق أن أكد المشير “عبد الرحمن سوار الذهب” في حوار تناولته المواقع أن “نميري” لم يكن يؤمن بأي حزب سياسي ديمقراطي في فترة حكم الاتحاد الاشتراكي، لكن عندما انطلقت الانتفاضة ظهرت أحزاب سياسية لا حصر لها، وكانت الضرورة تقتضي وضع قانون لقيام الأحزاب، (لكن حينها لم نجد ما يسمح بتنفيذ هذه الفكرة).
وفي سياق حديثه عن انحياز الجيش للشعب قال “سوار الذهب”: (نحن في القوات المسلحة وضح لنا أن الشعب السوداني يرفض تماماً وجود حكومة مايو، وكان تنظيم الاتحاد الاشتراكي قد قام بتنظيم تظاهرة تلوح بشعارات ثورة 25 مايو، لكنها كانت تظاهرة هزيلة أوضحت لنا أن الشعب السوداني أصبح لا يريد حكومة مايو، وأنا وقتها كنت النائب العام لوزير الدفاع، وشاورت القيادات العسكرية كافة في هذا الوضع ورغبة الشعب السوداني في طرد نظام مايو، وشهد القرار إجماعاً من القادة كافة على أن هذا الأمر لا يحتمل غير الوقوف إلى صف الشعب، وأن الشعب لم يعد راضياً عن الحكومة ورئيسها، ولم يكن هناك عناء في اجتماع القادة العسكريين واتفاق الجميع على تجنيب الشعب السوداني الدماء وتحقيق إرادته الحرة).
وتطابقت رؤية “سوار الذهب” مع “برمة” الذي أكد أنه تم استدعاؤهم لمقابلة الفريق “توفيق الخليفة” حتى يتم تنويرهم بالوضع، وبالمقابل معرفة رأيهم في القرار الذي ينبغي أن تتخذه قيادة الجيش، وقال: (أنا توكلت وقلت له نحن نثق في القرار المناسب الذي ستتخذونه، لكن أي قرار يكون ثمنه إراقة دماء الشعب لن ننفذه لذلك لا تضعونا في هذا المحك).
من جانبه قال القيادي بالمؤتمر الشعبي “أبو بكر عبد الرازق”: (بعد توتر الأوضاع كلفت الحركة الإسلامية “محمد الهادي المرضي المأمون” الذي شغل منصب أول وزير نقل في عهد الإنقاذ للاتصال بـ”عبد الرحمن سوار الذهب” لإقناعه بتسلّم السلطة حقناً لدماء الشعب، و”سوار الذهب” حينها لم يكن ينتمي لتنظيم الإخوان دخل الجيش، أخ مسلم لكنه ترك التنظيم، وفي البداية لم يوافق بحجة أنه أدى قسم الولاء لرئيس نظام مايو “جعفر نميري”، لكن “محمد الهادي” أقنعه بأن يكفّر مقابل حقن الدماء، وفي النهاية قررت قيادة الجيش تسلّم السلطة والانحياز للشعب وضغطوا على “سوار الذهب” لتسلّمها).
التنظيمات اليسارية قد تعدّ نفسها صاحبة السبق والمبادرة في إنجاح انتفاضة (أبريل) 1985 باعتبار أن النظام تحالف مع الإسلاميين في آخر أيامه، إلا أن القيادي بالمؤتمر الشعبي “أبو بكر عبد الرازق” قال لــ(المجهر) إن نائب الرئيس الأمريكي “بوش” الأكبر أثناء زيارته للسودان وقتئذ اتفق مع الرئيس “نميري” على إقصاء الإسلاميين من السلطة، وتبعاً لذلك دفع “نميري” بالاتهامات تجاههم وانتهت بإدخالهم المعتقل، وأضاف إن الحركة الإسلامية كانت تعلم بالاتفاق ورتبت أوضاعها على ذلك وحددت مهمة من يعتقل ومن لا يعتقل في الصد والمقاومة، وبعد ذلك سافر “نميري” للعلاج في أمريكا وصادف ذلك فوز الحركة الإسلامية باتحاد طلاب معهد كليات التكنولوجيا الذي كان رئيسه “صلاح صاغة” وقام الاتحاد بتظاهرة من غرب الاستاد إلى السوق العربي، وقتل على إثرها أحد “الشماسة” وحُمل إلى مستشفى الخرطوم ما قاد إلى إضراب الأطباء الذين كان يقودهم إسلاميون بعضهم منظم وبعضهم غير منظم، بقيادة دكتور” الجزولي دفع لله” و”حسين أبو صالح”، وتوالت الإضرابات من نقابة الأطباء والكهرباء والمياه التي سيطر عليها الإسلاميون، ودخلت نقابات المستقلين إضافة إلى أحزاب أخرى وتم الإضراب الكامل.
انحياز الجيش للشعب كان سبباً مباشراً لنجاح انتفاضة (أبريل).. فهل سيعيد التاريخ مثل هذه المواقف؟؟
المجهر