الصادق الرزيقي

زيارة دارفور.. تحول المسارات الرخوة!!

لم تحظ حتى اللحظة زيارة السيد رئيس الجمهورية إلى دارفور منذ الجمعة الماضية حتى الثلاثاء الاسبوع الماضي، بما تستحقه من قراءات وتحليل دقيق، لما وراءها وما تم فيها وما بعدها، فالظروف والاجواء التي تمت فيها، وحقائق الوضع الداخلي في دارفور، مقرونة بما يرتب له في الخارج بشأن هذه المنطقة وتطورات قضيتها، وضعت الزيارة وكأنها فاصلة بين زمنين، وقاطعة لمرحلتين.
ويقتضي النظر إليها أن يكون مستوعباً المعطيات التي تشكل صورة الإقليم كله من ليبيا إلى الانتخابات الرئاسية التشادية مروراً بالواقع الجديد في إفريقيا الوسطى التي اختارت رئيساً جديداً ووضعت الحرب هناك أوزارها، ثم دولة جنوب السودان التي تتقدم خطوة وتتقهقر خطوات في سبيل تطبيق الاتفاقية بين حكومة جوبا والمعارضة التي يقودها د. رياك مشار وهو يعتزم العودة مع أمل ضئيل للغاية في خروج جنوب السودان من مستنقع الحرب.
وبالرغم من ان الزيارة حظيت باهتمام إعلامي وأصداء واسعة ملأت الفضاء الخارجي ورصدتها وسائل الإعلام هنا وهناك، إلا أن مؤشرات سبقتها، ونتائج تمخضت عنها، ومستجدات ترتبت عنها، تجعل المتابع أو المراقب يقف كثيراً ليرى كيف ستخطو دارفور خطواتها الأولى على بُسط مستقبلها المرتقب عقب الاستفتاء الإداري، وما الذي يخبئه المجال الإقليمي والدولي بعد أن وضع السيد الرئيس أهدافاً في المرمى الآخر تؤهل دارفور لدخول المرحلة القادمة متخطية ومتجاوزة عثرات وعقبات الماضي ومطباته.

فالسؤال إذن: كيف استطاعت الزيارة تحقيق كل أهدافها.. ولم .. وكيف؟
يمكن القول إن الزيارة حققت أهدافها لأنها تقف على قاعدة وارضية صلبة، تحققت نتيجة لما يلي:
أولاً: لم يكن انهيار التمرد وانحساره وليد صدفة او تم خلال فترة زمنية محددة، فقد كانت صيرورته الى زوال من فترة طويلة، ربما تكون في الارجح منذ ان سعت الحكومة الى التعامل مع البيئة الاقليمية خاصة الجوار الخارجي لدارفور، مضافة اليه التدابير الداخلية الحاسمة في مواجهة الحركات المتمردة التي بنيت على رفض المجتمع في ولايات دارفور للتمرد ولفظه له والإرادة الراسخة غير المتذبذبة لانهائه وتجفيف منابعه ومحاصرة تمدده وعزل تأثيره على قوى المجتمع المختلفة، وأسهم المجتمع الدارفوري بصورة كبيرة في تراجع التمرد سواء أكان عبر الاستنفار لمواجهته والتجنيد في صفوف القوات النظامية، او التصدي الواعي لدعايته العنصرية ومحاولات استمالة المغرر بهم والتجنيد القسري للأطفال والصبية، كما كانت تفعل الحركات في السنوات الأولى لظهورها.
فعلى صعيد التعامل مع البيئة الإقليمية في جوار دارفور، فقد كان لسقوط نظام القذافي في ليبيا دور بارز في تقليل مصادر الدعم والسلاح، وكانت ليبيا القذافي هي الداعم الأكبر والصانع الرئيس لحركات التمرد، فعندما سقط القذافي فرت الحركات من ليبيا وفقدت منابع مالها وسلاحها ومراكز تدريبها والدعم السياسي والإيواء الذي كانت تحظى به، بجانب ذلك أسهم تحسن العلاقات مع الجارة تشاد وحسن نوايا الرئيس إدريس ديبي والتعاون الفاعل مع السودان وضبط الحدود عبر القوات المشتركة والتنسيق المشترك بين البلدين، في تقليم مخالب الحركات تماماً وهروبها من على طول الحدود مع تشاد وفقدانها ظهيراً كان يمكن أن يكون ذا أثر فعَّال لو استمر العداء بين الخرطوم وانجمينا.. كما ان اتفاقية ووثيقة الدوحة افقدت الحركات الحجج والمبررات التي كانت تعتمد عليها في دعايتها السياسية وأسباب تمردها وحملها للسلاح.. ثم جاءت الحرب في جنوب السودان ووجود اتفاقيات التعاون بين السودان وجنوب السودان وإغلاق الحدود ومراقبتها وضبطها ومتابعة نشاط المجموعات المسلحة في البروتكول الامني لتزيد من حالة التضييق على الحركات وتعجل بنهايتها.
ثانياً: يمكن القول ان معركة «قوز دنقو» في مايو العام الفائت كانت بداية النهاية للتمرد، وهي لا تعني حركة العدل والمساواة وحدها التي كانت اقوى الحركات وأكثرها تدريباً وتأهيلاً على الارض بعد تدريب قواتها ودعمها وتسليحها، انما الحركات باجمعها، ومن تلك المعركة الحاسمة التي استبسلت فيها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، كتبت شهادة الوفاة للعمل المسلح بكيفيته المعروفة، وخسرت الحركات آخر رهاناتها وانتهت أسطورتها وفقدت ثقة الدوائر الخارجية التي تدعمها.
ومنذ تلك المعركة تضعضع العمل العسكري للحركات بشكل كامل، وفرت الحركات خاصة حركة مني اركو مناوي وبقية من العدل والمساواة وبعض المجموعات الصغيرة المتشظية من حركات اخرى، اما إلى ليبيا للقتال ضمن المرتزقة مع اللواء خليفة حفتر واعوان القذافي المتحالفين معه، او هربت الى جنوب السودان دون أمل في اعادة تنظيم الصفوف والعودة مرة اخرى. ومما لا شك فيه انه بعد تلك المعركة تغيرت الصورة وتفرقت الجميع ايدي سبأ، وسئمت حتى الحركات نفسها النشاط العسكري وإمكان تحقيق نتيجة ونصر ينتظر.
ثالثاً: استطاعت الحكومة في مجال صناعة السلام، احتواء ولجم الكثير من الخلافات الداخلية والصراعات القبلية، وزادت من فاعلية الحكومات الولائية، واعادت ترتيب الأمور الادارية والسياسية المحلية، خاصة التغييرات التي تمت في الولاة، وتعيين ولاة من خارج دارفور، وترافقت مع ذلك نجاحات معقولة في مجال الخدمات والتنمية ووصول طريق الانقاذ الغربي الى الفاشر وقطاعه الغربي الى الجنينة ومنها الى الحدود التشادية، وما تحقق في مضمار التنمية والخدمات الذي قامت به السلطة الاقليمية، وهذا اعطى المواطنين شعوراً بالرضاء النسبي، وزاد من معدلات الثقة في أن السلام والاستقرار رغم ظروف التوتر افضل من الانتظار الى ما لا نهاية في رجاء الحركات حتى تفيء إلى امر السلام.
رابعاً: شهدت البيئة الدولية تراجعاً ملحوظاً في الاهتمام بقضية دارفور، وخفت لهجة العداء للسودان في المحافل الدولية خاصة في مجلس الامن الدولي، واستطاعت الدبلوماسية السودانية محاصرة الجهات المعادية وصنعت تحالفات دولية فعالة كانت سبباً في تخفيف او ايقاف الكثير من القرارات الدولية التي كانت تستهدف البلاد، ونجحت في اعادة توجيه الدفة بشأن قضايا دارفور وغيرها داخل البيت القاري في مجلس السلم والامن الافريقي، ولم تعد المنظمات غير الحكومية والناشطون في الولايات المتحدة الامريكية قادرين على قيادة وانجاح الحملات الدعائية المعادية كما كانت تفعل في السابق، اما لخلافات بينها وداخلها واتهامات بالفساد بين قياداتها كما حدث في تجمع منظمات «انقذوا دارفور save darfur» ومنظمة كفاية، كانت واحداً من الأسباب التي أدت إلى تراجع الاهتمام بالقضية وناشطيها.
ومن هنا نخلص الى الآتي:
ما تحقق من الزيارة هو تأكيد على أن التعافي الذي حدث في دارفور، جعل الرئيس يخاطب مستقبل دارفور وليس ماضيها أو حتى واقعها الراهن، ففي كل خطابات الرئيس كان يصوب نحو العوامل البناءة في جعل دارفور تعود كما كانت وأفضل، ورسم لها معالم طريق جديد لو سارت عليه ستكسب وتربح نفسها غدها، كما انه وضع صمام الأمان الذي يضمن عدم تفجر الأوضاع مستقبلاً مهما كانت الاسباب والدوافع.
تندفع دارفور بولاياتها الخمس، ومواطنيها الذين تقاطروا بالملايين لاستقبال السيد الرئيس والاستماع إليه، لتأكيد وضعها الاداري الحالي في الاستفتاء الذي ينطلق التصويت فيه بعد يومين، لتقطع الطريق تماماً امام دعاة الإقليم الذين كانوا يريدون الانحراف بالفكرة نفسها إلى أجندة سياسية تنتظر إقرار تلك الصيغة لوضع كل دارفور على مسار آخر يقود إلى مصير مجهول، مع العلم أن صيغة الإقليم كانت ستعيد دارفور إلى خلافات وصراعات أعنف تمهد طريقاً للأسوأ.
ووفقاً لما خططت له الحكومة في استراتيجية خروج بعثة اليوناميد، بعد انتفاء أسباب وجودها، فإن ما أكدته الزيارة لكل متشكك في العافية الكاملة وتحقق الأمن والسلام ونهاية التمرد، يشير بصورة واضحة إلى أن مسألة خروج اليوناميد والمنظمات التي بذرت بذور الفتنة باتت مسألة وقت لا غير، فالدولة قادرة على حماية مواطنيها وتستطيع توفير كل احتياجاتهم، ولأول مرة يشعر من هم في معسكرات النزوح بأن حياتهم في كنف حكومتهم مأمونة وطلباتهم مجابة وتعويضاتهم مضمونة.
وهناك شيء مهم اكدته الزيارة، هو ان مجتمع دارفور متماسك متجانس، وقد تجلى ذلك في الروح التسامحية التصالحية بين كل فئاته وشرائحه وقبائله، ووجود القيادات السياسية والاجتماعية والولاة السابقين الذين ذهبوا لاستقبال الرئيس وأبناء دارفور من الولاة في مناطق السودان الأخرى وهم يشاركون في هذه الزيارة التاريخية، وعدم بروز أي نوع من الخلافات والحساسيات في اللقاءات النوعية، ومشاركة الأحزاب والتنظيمات السياسية وقادة الأحزاب حتى المعارضين منهم واختلاف مواقفهم مع مواقف قياداتهم في المركز، دليل على أن دارفور تخطو نحو المستقبل، وقد أمسك الرئيس بهذا المستقبل من لجامه وخطامه.