منى عبد الفتاح : استفتاء دارفور… الخلاف والجدوى
عمدت حكومة جبهة الإنقاذ في السودان، بعد مجيئها بسنوات قليلة، إلى تقسيم إقليم دارفور (غرب) إلى ثلاث ولايات، ثم إلى خمسٍ، بعد أن كان موحدّاً. أضعف التقسيم قوة الإقليم، وتصاعدت مطالب الانفصال إلى محاولاتٍ عسكرية. وزادت حدة الصراع، نتيجة عوامل ساهمت فيها طبيعة ولايات دارفور في تقاطع حدودها الدولية الممتدة مع تشاد وأفريقيا الوسطى، وارتباطها بطرق برية مع ليبيا ومصر. ساهمت هذه الخصائص، مع الضغوط البيئية مثل الجفاف والتصحر وارتفاع النمو السكاني، في نشوء النزاع بين السلطة وسكان الإقليم، بسبب تدهور الحكم المحلي.
تباينت الآراء حول الاستفتاء على وضع ولايات دارفور الإداري، بين الإبقاء على الإقليم، بوضعه الحالي من خمس ولايات منفصلة عن بعضها، أو انضمام هذه الولايات لتشكيل منطقة واحدة. وليس هذا التباين في وجهات النظر فحسب، وإنّما في تمسّك الحكومة بإجراء الاستفتاء كأحد استحقاقات اتفاقية أبوجا 2006، بينما ترى الحركات الدارفورية المسلحة أنّ تنظيم الاستفتاء بهذه الطريقة يُعدُّ نسفاً لمفاوضات الدوحة التي قطعت شوطاً في إيجاد نواة بناء السلام في الإقليم. وبين إصرار الحكومة التي نفذّت ما أرادت ونظرة الحركات المسلحة إلى الاستحقاقات الأساسية التي ينبغي أن تلتزم بها الحكومة، تجاوز الأمد تواريخ عُلقّت من قبل، حتى تمّ الاستفتاء، أخيراً، في الأسبوع الأول من إبريل/ نيسان الجاري.
ساهمت عدة عوامل في فكرة بقاء إقليم دارفور وحدة إدارية واحدة مستقلة، أهمها مساحته، والتي تبلغ 510 آلاف كيلومتر مربع، تُحدُّ بدولة تشاد بحدود طولها 600 كم، وتمتدُّ الحدود إلى أفريقيا الوسطى. وتنبع أهمية هذه الحدود من وقوعها فاصلاً بين الدول التي كانت تسيطر عليها بريطانيا شرقاً والدول التي كانت تسيطر عليها فرنسا غرباً.
أما أهم عامل مؤهل لفكرة الانفصال، فهو البعد الديني والتاريخي لمنطقة دارفور التي عدد سكانها ستة ملايين نسمة، لأكثر من 50 قبيلة تعتنق كلها الدين الإسلامي على المذهب السني، ويتميزون بالنزعة الصوفية. يوحدهم هذا العامل قوةً في دولة واحدة صغيرة، كانت فيما قبل بمثابة دولة مستقلة متمثلة في مملكة دارفور، بنظامها الإداري وجيشها الوطني وعلاقاتها الخارجية، يتعامل معها العالم الخارجي بوصفها سلطنة مسلمة إلى آخر سلاطينها “السلطان علي دينار” الذي حكم من 1898 إلى 1917، والذي اشتهر بإرسال كسوة الكعبة إلى مكة المكرمة عشرين عاماً.
ما يعيشه أهل دارفور، اليوم، من ظروف سياسية واقتصادية وأمنية سيئة، بالإضافة إلى تهميش
“لن يعود الإقليم إلى سابق عهده، حتى بالنسبة إلى الأصوات المتفائلة التي رحّبت بإجراء الاستفتاء الإداري” الإقليم عقوداً طويلة من الحكومات الوطنية، ونظرة الحكومات المتعاقبة لدارفور منطقة صحراوية غير غنية، تقطنها قبائل بدوية، أدى ذلك كله إلى عدم الاهتمام بالمنطقة، ما دمّر بنيتها التحتية، وأدى ضعف الوعي العام والصحة والتعليم والتنمية إلى ضعف الولاء للسودان وطناً. ثم فاقم من ازدياد مشكلات الانفلات الأمني ضعف القوة العسكرية في تلك المنطقة. أدى ذلك إلى تنامي “الجنجويد”، وهي مليشيا منسوبة إلى النظام الحاكم، تتكون من قبائل عربية، تركب الخيول، وتلبس الملابس البيضاء، فرضت سيطرتها بالقتل والسرقة وفرض ما تريده من تصرفاتٍ على أهالي الإقليم.
وقبل أن يتم الاستفتاء على وضع دارفور الإداري، قامت الحكومة والحركات المسلحة بعدد من المفاوضات لإرساء قواعد السلام في الإقليم. وكان التوقيع على اتفاقية أبوجا في 2006 بين حكومة السودان وحركة/ جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة أهم ما تم تحقيقه من جهود لوضع حل دائم للنزاع في دارفور. ثم جاء دور الوساطة القطرية والوساطة الأممية الأفريقية.
ترى الحكومة أنّ شرعية الاستفتاء وقانونيته تدعمها نصوص اتفاقية أبوجا، حتى ولو خرج عن ذلك الأمر الموقعون عليها، كما تراها أحد استحقاقات اتفاقية الدوحة الموقعة مع حركة التحرير والعدالة، نافيةً أن يهيئ ذلك لانفصال الإقليم عن الدولة السودانية. أما من ناحيةٍ سياسيةٍ، فإنّ قيام الاستفتاء يعتبر عملاً ديمقراطياً، ينبغي ألّا يستثمره أيٌّ من الطرفين في غير ذلك، حتى لا يقود إلى تمردٍ آخر، أو إلى تنفيذ أجندةٍ بدعوى تحقيق هذا العمل الديمقراطي.
لم يثر الاستفتاء، باعتباره من بنود الاتفاقية، حفيظة أهل دارفور والحركات المسلّحة، حين التوقيع على الاتفاقية، باعتباره أحد منجزات عملية السلام. ولكن، عندما أعلنت عنه الحكومة السودانية أثار جدلاً كثيفاً، وسط الحركات، بدعوى أنّ حرص الحكومة على إقامة الاستفتاء هو لتقسيم دارفور، وإضعاف شوكتها، ما يشي بأن هناك فكرة مدفونة وسط نيران الرفض هذه، مفادها بأنّ النتيجة التي لن تكون مرضيةً ستقود هذه الحركات لتبني المناداة بحق تقرير المصير.
تقول أغلب التوقعات إنّ إقليم دارفور لن يعود إلى سابق عهده، حتى بالنسبة إلى الأصوات المتفائلة التي رحبّت بإجراء استفتاء دارفور الإداري وفق شروط معينة، كأن يتمّ، في حالة السلم، وفي ظروفٍ أمنيةٍ تتيح لسكان الإقليم المشاركة في الاستفتاء. وهذا يتطلّب عملاً ضخماً، لن يكون بمقدور خزينة الدولة الفارغة تحقيقه، فما تقدر عليه الحكومة حالياً هو اختراق الوضع الإداري. ولكن، من غير بوابة البُنى التحتية، كالمدارس والمستشفيات. وعندما تصدر نتيجة الاستفتاء، أياً كانت فستجسّد النظرة التي يدرك من خلالها أهل الإقليم مزيداً من التفاوتات التنموية والسياسية، الموجودة أصلاً، لتدخل التفاوتات الاجتماعية في هذا التصور، في محاولةٍ لإعادة تحديد مكونات الهوية الدارفورية.